لا تحريف في التوراة والإنجيل
5 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
لا تحريف في التوراة والإنجيل
لا تحريف في التوراة والإنجيل
ميزان الحق
بقلم الدكتور فاندر
في بيان أن العهد القديم والجديد - أي التوراة والإنجيل
هما كلام الله ولم يُحرّفا ولم يُنسخا
شهادة القرآن للتوراة والإنجيل
الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ
أسفار العهدين القديم والجديد المتداولة اليوم هي بعينها التي كانت بأيدي النصارى واليهود وقد شهد لها القرآن
أسفار العهد القديم والجديد لم تتحرف
ميزان الحق
بقلم الدكتور فاندر
في بيان أن العهد القديم والجديد - أي التوراة والإنجيل
هما كلام الله ولم يُحرّفا ولم يُنسخا
شهادة القرآن للتوراة والإنجيل
الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ
أسفار العهدين القديم والجديد المتداولة اليوم هي بعينها التي كانت بأيدي النصارى واليهود وقد شهد لها القرآن
أسفار العهد القديم والجديد لم تتحرف
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
الفصل الأول
شهادة القرآن للتوراة والإنجيل
مقدمة
الحمد لله أننا نعيش في عصر العلم والتنوّر ، الذي لا مكان فيه للمتعصب والناموسي. إن أوساط الدنيا مفتوحة للبحث الموضوعي والتفاهم المبني على أسس الحقيقة. فإن كنت من الذين يفتشون عن الحق فندعوك للدراسة الخالية من العواطف ، لتجد جوهر الوحي وتلبس قوة العلي. الحمد لله مرة أخرى لأن الخبير الدكتور فاندر ألف منذ أكثر من مائة سنة هذا الكتاب الشهير ميزان الحق ، ولم نجد حاجة للتغيير فيه ، لأن مقارناته متينة ومبنية على احترام وفهم وعدل. فيسرنا أن ننشر كتابه مرة أخرى عسى أن بعض الشباب يغادرون جو القرون الوسطى وينطلقون إلى حرية الفكر والحياة المبنية على الواقع والمنطق والمحبة.
الناشرون
قسم العلماء البرهان إلى نوعين : عقلي ونقلي ، فالعقلي يحتوي على الدليلين الخارجي والداخلي. ولو كنا نؤلف تأليف الإقناع الكفار والملحدين وعبدة الأصنام ، لكان يجب علينا أولاً أن نأتي بالدليل الخارجي بأن التوراة والإنجيل هما قديمان وغير محرَّفين ، ونبيّن وجوب الاعتماد لأنهما وحي من الله تعالىثم علينا أن نذكر تاريخ كل سفر من أسفارهما - بمقدار إمكاننا - لنبيّن كيفية جمع الأسفار. وهل يحق لنا بعد وزن الدليل الخارجي أن ننسب الأسفار للأنبياء الذين كُتبت أسماؤهم عليها أم لا؟ وأخيراً نبحث في حقيقة الدليل الداخلي المأخوذ من نفس الأسفار ونبيّن نتيجة بحثنا. أما المسيحيون فإنهم كرروا ذلك ، لأن الملحدين وغيرهم أثاروا حرباً عواناً ضد الكتب المنزلة ، فلإقناعهم فحص المسيحيون وحققوا جميع الأدلة ، سواء كانت لهم أو عليهم لكونهم شديدي التمسك بالوصية المقدسة القائلة :
امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالحَسَنِ - 1 تس 5 :21 -
فإطاعة تلك الوصية مطلوبة منا بأمر من الله تعالى الذي وهبنا عقل الأجل هداية خطواتنا في سبيل تمجيد اسمه الأقدس. وحيث أن الحق من أخص صفات الله فهو لن يبيد ولن يتلاشى ، بل يجب أن يبقى أبدياً. والذي يريد البحث عن الحق الإلهي والسير في مسالكه حسب إرادة الله المقدسة لا يخوِفه ولا يصده عن أدق تنقيب حول أسس إيمانه شيء ما. وبعد إتمام ذلك التنقيب والبحث لا يثبت على صخرة الحق وحده فقط ، بل هو قادر أيضاً على إعانة آخرين مثل اللا أدرية وغيرهم من المترددين والمذبذبين في الشك ، فإيمانه حينئذ يستحق أن يطلق عليه اسم إيمان إذ ليس هو كتقليد الجاهلين ولا كتمسُّك المتعصبين. أما الأدلة العقلية على صحة الديانة المسيحية فمكاتب العلماء المسيحيين مملوءة بالكتب في موضوعها. وليس هنا محلٌّ لإيرادها .لأن غرض هذا التأليف ليس إقناع الكفرة ، بل مساعدة إخواننا المسلمين الذين يقبلون القرآن كآخر إعلان من الله تعالى لهم ، ويؤمنون أنه يحتوي على كلام الله نفسه. فأهم من كل شيء عند المسلم اعتقاد صدق ما قاله القرآن الشريف لأن بعض المسلمين الجاهلين يعتقدون بعكس ما قاله القرآن في ذلك فأكثرهم يعتقد في الكتاب المقدس غير ما يشهد القرآن له ، فيجدر بكل مسلم أن يشترك معنا في البحث عن شهادات القرآن للتوراة والإنجيل ، لنستفيد جميعاً فائدة تُذكر فتُشكر.
يشهد المصحف يشهد أنه وُجد في جزيرة العرب زمن صاحب القرآن أمتان مختلفتان في الدين. قال في سورة البقرة 2 :113 وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ . وملخص ما قاله البيضاوي في تفسيره على هذه الآية إنها نزلت عند قدوم وفد نجران على صاحب القرآن ، حيث تناظروا مع أحبار اليهود وتقاولوا بذلك. ليست على شيء أي على أمر يصح ويعتد به ، والحال إنهم من أهل العلم والكتاب. ومثل قولهم قال الذين لا يعلمون كعبدة الأصنام والمعطلة.
لكنهما وإن اختلفا ديناً فقد اتحدا بتسمية كل منهما أهل الكتاب ، ألا وهما المسيحيون واليهود. قال في سورة آل عمران 3 :69-71 وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي آل عمران 3 :110 وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكتَابِ لَكَانَ خَيْر الهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ أيضاً آية 199 وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي سورة النساء 4 :153 يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ وفيها آية 159 وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وفي سورة العنكبوت 29 :46
وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .
إن القرآن يشهد أن الكتاب الذي انتمى إليه هذان الشعبان لم يزل موجوداً بصحته إلى زمنه. قال في سورة البقرة 2 :105 و109 مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ... وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ... .
وفي سورة آل عمران 3 :20 و23 وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكتَابَ وَالأُمِيِينَ... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ .
قال البيضاوي : ما ملخصه الداعي محمد ، وكتاب الله القرآن والتوراة.
وفيها أيضاً آية 64 قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الخ آية 65 يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ الخ آية 69 وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وآية 70 يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وآية 71 يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ الخ وآية 72 وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ الخ وآية 75 وَمِنْ أَهْلِ الْكتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ الخ إلى آيات كثيرة يسمي القرآن اليهود والنصارى بأهل الكتاب ، ولا شك أنه هو الذي كان وقتئذ موجوداً بأيديهم. قال في سورة المائدة 5 :43 وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ الخ وآية 44 إِنَّا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ الخ وآية 68 قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الخ وفي سورة الأعراف يصرح بأن اليهود تلقوا الكتاب - التوراة - بالتوارث عن آبائهم في آية 169 فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكتَابَ الخ حتى أن القرآن يأمر محمداً أن يسأل أهل الكتاب إن حصل عنده شك في القرآن ليتثبَّت به. قال في سورة يونس 10 :94 فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ الخ .
وحتى أنه يشهد شهادات مفصلة ومبينة لأجزائه الثلاثة أي التوراة والزبور والإنجيل. قال في سورة آل عمران 3 :3 و4 وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ الخ . وفي سورة الأنعام 6 :91 قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا الخ وآية 92 وَهَذَا كِتَابٌ - أي القرآن - أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الخ قال البيضاوي : يعني التوراة أو الكتب التي قبله . وفي آية 154 ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيل الكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وفي آية 156 أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا الخ قال البيضاوي أي اليهود والنصارى. وقال في سورة هود 11 :110 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ الخ . وفي سورة المائدة يصف حالة اليهود في آية 43 وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ الخ . وآية 44 إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ إلى أن قال فيها وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وقال في المسيح والإنجيل آيتي 46 و47 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وقال في القرآن آية 48 وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتَابَ - أي القرآن - بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَابِ - أي من جنس الكتب المنزلة - وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي رقيباً على جميع الكتبيحفظها عن التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات هكذا قال البيضاوي.
وقال بخصوص المسيح والإنجيل وأتباعه كما في سورة الحديد 57 :27 ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ .
وقال بخصوص زبور داود - المزامير - كما في سورة الإسراء 17 :55 وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً . وقال في سورة الأنبياء 21 :105 وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ .
لقد شهد القرآن في عدة آيات أن التوراة والزبور والإنجيل منزلة من عند الله ، وأنه جاء مصدقاً ومهيمناً أي مراقباً وحافظاً ومثبتا لها ، كما تقدم ، وكما في سورة الملائكة - فاطر - 35 :31 و32 وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا الخ .
يخبرنا القرآن أن من لا يقبل هذه الكتب ولا يؤمن بها سوف يُعاقب في الآخرة عقاباً شديداً كما في سورة غافر40 :53 و54 و70 و71 و72 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ... الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ .
ويقول القرآن إن تعاليم التوراة والإنجيل متوافقة كما في سورة المائدة 5 :46 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ الخ .
ورب معترض يقول :
1 - إنكم يا جماعة المسيحيين لا يسعكم الاستشهاد من القرآن لأنه غير مقبول لديكم ككتاب منزل من عند الله تعالى.
2 - الأسفار الموجودة الآن بأيدي المسيحيين باسم العهدين القديم والجديد ليست هي الكتب الأصلية المشار إليها في القرآن ، أو إنها تحرفَّت. وإن لم تُحرَّف فهي على كل حال منسوخة.
فرداً على ذلك نسلم بأن الاعتراض الأول كان في محله لو كان البرهان على المسيحيين ، وحيث أنه أُقيم على المسلمين المعتقدين بإنزال القرآن من عند الله ، فالاستشهاد منه يكون برهاناً قاطعاً ، لأنه مسلَّم عند الخصم ، وإلا فنحن المسيحيين لا نحتاج إلى إثبات صحة الكتاب المقدس بالاستشهاد من القرآن.
وأما الاعتراض الثاني فإنه يعارض نصوص القرآن على خط مستقيم ، إذ يقول بعدم تغيير كلمات الله. قال في سورة الأنعام 6 :34 وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وفي سورة يونس 10 :64 لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وفي سورة الكهف 18 :27 وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ . كما ستراه في بقية فصول هذا الباب.
واضح من القرآن أن الكتاب كان موجوداً بين أهله في زمن محمد ، ولأجل إثبات ذاك نكتفي بقليل من كثير ، ففي سورة المائدة 5 :68 و69 قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابِئُونَ وَالنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن ابن عباس ، قال : جاء رافع وسلام ابن مشكم ومالك ابن الصيف فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا ، قال : بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها وكتمتم ما أُمرتم أن تبينوه للناس. قالوا : نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق - أسباب النزول -
فمن هذه يظهر أن محمداً أعلن قبوله للكتب المتداولة بين اليهود ، ولو أنه رفض البدع والأحداث التي قال إنهم قد أدخلوها في رسوم ديانتهم الظاهرية. ومن هذا القبيل يوافق قول محمد لقول سيدنا المسيح لليهود في زمنه كما في بشارة متى 23 :16-24 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ : مَنْ حَلَفَ بِالهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ ، أَيُّمَا أَعْظَمُ : أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذهَبَ ، الخ .
شهادة القرآن للتوراة والإنجيل
مقدمة
الحمد لله أننا نعيش في عصر العلم والتنوّر ، الذي لا مكان فيه للمتعصب والناموسي. إن أوساط الدنيا مفتوحة للبحث الموضوعي والتفاهم المبني على أسس الحقيقة. فإن كنت من الذين يفتشون عن الحق فندعوك للدراسة الخالية من العواطف ، لتجد جوهر الوحي وتلبس قوة العلي. الحمد لله مرة أخرى لأن الخبير الدكتور فاندر ألف منذ أكثر من مائة سنة هذا الكتاب الشهير ميزان الحق ، ولم نجد حاجة للتغيير فيه ، لأن مقارناته متينة ومبنية على احترام وفهم وعدل. فيسرنا أن ننشر كتابه مرة أخرى عسى أن بعض الشباب يغادرون جو القرون الوسطى وينطلقون إلى حرية الفكر والحياة المبنية على الواقع والمنطق والمحبة.
الناشرون
قسم العلماء البرهان إلى نوعين : عقلي ونقلي ، فالعقلي يحتوي على الدليلين الخارجي والداخلي. ولو كنا نؤلف تأليف الإقناع الكفار والملحدين وعبدة الأصنام ، لكان يجب علينا أولاً أن نأتي بالدليل الخارجي بأن التوراة والإنجيل هما قديمان وغير محرَّفين ، ونبيّن وجوب الاعتماد لأنهما وحي من الله تعالىثم علينا أن نذكر تاريخ كل سفر من أسفارهما - بمقدار إمكاننا - لنبيّن كيفية جمع الأسفار. وهل يحق لنا بعد وزن الدليل الخارجي أن ننسب الأسفار للأنبياء الذين كُتبت أسماؤهم عليها أم لا؟ وأخيراً نبحث في حقيقة الدليل الداخلي المأخوذ من نفس الأسفار ونبيّن نتيجة بحثنا. أما المسيحيون فإنهم كرروا ذلك ، لأن الملحدين وغيرهم أثاروا حرباً عواناً ضد الكتب المنزلة ، فلإقناعهم فحص المسيحيون وحققوا جميع الأدلة ، سواء كانت لهم أو عليهم لكونهم شديدي التمسك بالوصية المقدسة القائلة :
امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالحَسَنِ - 1 تس 5 :21 -
فإطاعة تلك الوصية مطلوبة منا بأمر من الله تعالى الذي وهبنا عقل الأجل هداية خطواتنا في سبيل تمجيد اسمه الأقدس. وحيث أن الحق من أخص صفات الله فهو لن يبيد ولن يتلاشى ، بل يجب أن يبقى أبدياً. والذي يريد البحث عن الحق الإلهي والسير في مسالكه حسب إرادة الله المقدسة لا يخوِفه ولا يصده عن أدق تنقيب حول أسس إيمانه شيء ما. وبعد إتمام ذلك التنقيب والبحث لا يثبت على صخرة الحق وحده فقط ، بل هو قادر أيضاً على إعانة آخرين مثل اللا أدرية وغيرهم من المترددين والمذبذبين في الشك ، فإيمانه حينئذ يستحق أن يطلق عليه اسم إيمان إذ ليس هو كتقليد الجاهلين ولا كتمسُّك المتعصبين. أما الأدلة العقلية على صحة الديانة المسيحية فمكاتب العلماء المسيحيين مملوءة بالكتب في موضوعها. وليس هنا محلٌّ لإيرادها .لأن غرض هذا التأليف ليس إقناع الكفرة ، بل مساعدة إخواننا المسلمين الذين يقبلون القرآن كآخر إعلان من الله تعالى لهم ، ويؤمنون أنه يحتوي على كلام الله نفسه. فأهم من كل شيء عند المسلم اعتقاد صدق ما قاله القرآن الشريف لأن بعض المسلمين الجاهلين يعتقدون بعكس ما قاله القرآن في ذلك فأكثرهم يعتقد في الكتاب المقدس غير ما يشهد القرآن له ، فيجدر بكل مسلم أن يشترك معنا في البحث عن شهادات القرآن للتوراة والإنجيل ، لنستفيد جميعاً فائدة تُذكر فتُشكر.
يشهد المصحف يشهد أنه وُجد في جزيرة العرب زمن صاحب القرآن أمتان مختلفتان في الدين. قال في سورة البقرة 2 :113 وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ . وملخص ما قاله البيضاوي في تفسيره على هذه الآية إنها نزلت عند قدوم وفد نجران على صاحب القرآن ، حيث تناظروا مع أحبار اليهود وتقاولوا بذلك. ليست على شيء أي على أمر يصح ويعتد به ، والحال إنهم من أهل العلم والكتاب. ومثل قولهم قال الذين لا يعلمون كعبدة الأصنام والمعطلة.
لكنهما وإن اختلفا ديناً فقد اتحدا بتسمية كل منهما أهل الكتاب ، ألا وهما المسيحيون واليهود. قال في سورة آل عمران 3 :69-71 وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وفي آل عمران 3 :110 وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكتَابِ لَكَانَ خَيْر الهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ أيضاً آية 199 وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي سورة النساء 4 :153 يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ وفيها آية 159 وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وفي سورة العنكبوت 29 :46
وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .
إن القرآن يشهد أن الكتاب الذي انتمى إليه هذان الشعبان لم يزل موجوداً بصحته إلى زمنه. قال في سورة البقرة 2 :105 و109 مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ... وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ... .
وفي سورة آل عمران 3 :20 و23 وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكتَابَ وَالأُمِيِينَ... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ .
قال البيضاوي : ما ملخصه الداعي محمد ، وكتاب الله القرآن والتوراة.
وفيها أيضاً آية 64 قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الخ آية 65 يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ الخ آية 69 وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وآية 70 يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ وآية 71 يَا أَهْلَ الْكتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ الخ وآية 72 وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ الخ وآية 75 وَمِنْ أَهْلِ الْكتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ الخ إلى آيات كثيرة يسمي القرآن اليهود والنصارى بأهل الكتاب ، ولا شك أنه هو الذي كان وقتئذ موجوداً بأيديهم. قال في سورة المائدة 5 :43 وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ الخ وآية 44 إِنَّا أَنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ الخ وآية 68 قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الخ وفي سورة الأعراف يصرح بأن اليهود تلقوا الكتاب - التوراة - بالتوارث عن آبائهم في آية 169 فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكتَابَ الخ حتى أن القرآن يأمر محمداً أن يسأل أهل الكتاب إن حصل عنده شك في القرآن ليتثبَّت به. قال في سورة يونس 10 :94 فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ الخ .
وحتى أنه يشهد شهادات مفصلة ومبينة لأجزائه الثلاثة أي التوراة والزبور والإنجيل. قال في سورة آل عمران 3 :3 و4 وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ الخ . وفي سورة الأنعام 6 :91 قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا الخ وآية 92 وَهَذَا كِتَابٌ - أي القرآن - أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الخ قال البيضاوي : يعني التوراة أو الكتب التي قبله . وفي آية 154 ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيل الكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وفي آية 156 أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا الخ قال البيضاوي أي اليهود والنصارى. وقال في سورة هود 11 :110 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ الخ . وفي سورة المائدة يصف حالة اليهود في آية 43 وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ الخ . وآية 44 إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيُّونَ إلى أن قال فيها وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وقال في المسيح والإنجيل آيتي 46 و47 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وقال في القرآن آية 48 وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتَابَ - أي القرآن - بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَابِ - أي من جنس الكتب المنزلة - وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي رقيباً على جميع الكتبيحفظها عن التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات هكذا قال البيضاوي.
وقال بخصوص المسيح والإنجيل وأتباعه كما في سورة الحديد 57 :27 ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ .
وقال بخصوص زبور داود - المزامير - كما في سورة الإسراء 17 :55 وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً . وقال في سورة الأنبياء 21 :105 وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ .
لقد شهد القرآن في عدة آيات أن التوراة والزبور والإنجيل منزلة من عند الله ، وأنه جاء مصدقاً ومهيمناً أي مراقباً وحافظاً ومثبتا لها ، كما تقدم ، وكما في سورة الملائكة - فاطر - 35 :31 و32 وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا الخ .
يخبرنا القرآن أن من لا يقبل هذه الكتب ولا يؤمن بها سوف يُعاقب في الآخرة عقاباً شديداً كما في سورة غافر40 :53 و54 و70 و71 و72 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ... الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ .
ويقول القرآن إن تعاليم التوراة والإنجيل متوافقة كما في سورة المائدة 5 :46 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ الخ .
ورب معترض يقول :
1 - إنكم يا جماعة المسيحيين لا يسعكم الاستشهاد من القرآن لأنه غير مقبول لديكم ككتاب منزل من عند الله تعالى.
2 - الأسفار الموجودة الآن بأيدي المسيحيين باسم العهدين القديم والجديد ليست هي الكتب الأصلية المشار إليها في القرآن ، أو إنها تحرفَّت. وإن لم تُحرَّف فهي على كل حال منسوخة.
فرداً على ذلك نسلم بأن الاعتراض الأول كان في محله لو كان البرهان على المسيحيين ، وحيث أنه أُقيم على المسلمين المعتقدين بإنزال القرآن من عند الله ، فالاستشهاد منه يكون برهاناً قاطعاً ، لأنه مسلَّم عند الخصم ، وإلا فنحن المسيحيين لا نحتاج إلى إثبات صحة الكتاب المقدس بالاستشهاد من القرآن.
وأما الاعتراض الثاني فإنه يعارض نصوص القرآن على خط مستقيم ، إذ يقول بعدم تغيير كلمات الله. قال في سورة الأنعام 6 :34 وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وفي سورة يونس 10 :64 لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وفي سورة الكهف 18 :27 وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ . كما ستراه في بقية فصول هذا الباب.
واضح من القرآن أن الكتاب كان موجوداً بين أهله في زمن محمد ، ولأجل إثبات ذاك نكتفي بقليل من كثير ، ففي سورة المائدة 5 :68 و69 قُلْ يَا أَهْلَ الْكتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصابِئُونَ وَالنصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن ابن عباس ، قال : جاء رافع وسلام ابن مشكم ومالك ابن الصيف فقالوا : يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا ، قال : بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها وكتمتم ما أُمرتم أن تبينوه للناس. قالوا : نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق - أسباب النزول -
فمن هذه يظهر أن محمداً أعلن قبوله للكتب المتداولة بين اليهود ، ولو أنه رفض البدع والأحداث التي قال إنهم قد أدخلوها في رسوم ديانتهم الظاهرية. ومن هذا القبيل يوافق قول محمد لقول سيدنا المسيح لليهود في زمنه كما في بشارة متى 23 :16-24 وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ : مَنْ حَلَفَ بِالهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ ، أَيُّمَا أَعْظَمُ : أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذهَبَ ، الخ .
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
ولكن المهم هنا هو أن هذه الآية ورواية ابن عباس لسبب نزولها تثبتان أن التوراة والإنجيل كانا موجودين عند اليهود والمسيحيين ، وإلا فلا معنى لأمرهم بإقامة الأوامر والنواهي الموجودة بتلك الكتب إن كانت أُعدمت أو تحرَّفت. ففي الحالة الأولى تكون طاعة الأمر غير ممكنة بل مستحيلة ، وأما في الثانية فطاعة المحرَّف تُضلهم عن سواء السبيل.
وفي سورة البقرة 2 :113 وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَابَ ومعنى صيغة قوله - يتلون - إنهم كانوا في ذلك الوقت يتلون التوراة والإنجيل ، وهما موجودان بين أيديهم ، وإلا كان الواجب استعمال صيغة الماضي دلالة على أنهم تلوه في الماضي فقط.
وفي سورة يونس 10 :94 فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَا سْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ الخ وملخص ما حكاه جل المفسرين أن المخاطَب محمد ، والمراد أمته ، فسؤال أهل الكتاب محقق عندهم ، ثابت في كتبهم ، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة فإن القرآن مصدق لما فيها. أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أُنزل إليه. أو تهييج الرسول وزيادة تثبيته كما في البيضاوي وخلافه. فألفاظ هذه الآية تؤكد أن الكتاب المقدس كان موجوداً في زمن مجيء القرآن ، وأنه يعترف بصحته ، ويثق به وبقرَّائه من اليهود والنصارى ، وإلا لما جاز له أن يطلب من محمد أو أمته أو كل سامع أن يسألهم ليتثبَّت الإيمان في قلوبهم ويزول عنهم الشك بشهادة هؤلاء الثقات وكتابهم الموجود الذي لم يُغيَّر ولم يُحرَّف. ولا ريب أنه لم يبق عند القارئ شك بسلامة الكتاب إن كان يعتقد بصدق قرآنه.
وقال في سورة الأعراف 7 :159 مادحاً اليهود وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وقال البيضاوي على هذه الآية ما ملخصه ومن بني إسرائيل طائفة يهدون الناس محقين ، أو بكلمة الحق وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ، والمراد بها : الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه. وقيل هم مؤمنو أهل الكتاب .
هذه الآية تشهد أن الكتاب المقدس كان موجوداً بصحته وسلامته من كل تغيير في زمن إتيان القرآن ، وكانت أمة موجودة عاملة بأوامره ونواهيه.
وفي سورة آل عمران 3 :23 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ وملخص ما قاله البيضاوي أن سبب نزول هذه الآية أن محمداً دخل مدراس اليهود ، فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أ ي دين أنت ، فقال : على دين إبراهيم. فقال له : إبراهيم كان يهودياً. فقال : هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم ، فأبيا ، فنزلت. وقال - الكتاب - أي التوراة أو جنس الكتب السماوية - يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم - الداعي محمد وكتاب الله التوراة .
فهذه الآية تبين جلياً أن التوراة كانت في زمن صاحب القرآن ، ولثقته بها سماها كتاب الله ، وطلب من خصومه أن تكون حكماً بينهم.
وفي السورة أيضاً آية 93 مع ملخص ما قاله البيضاوي كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِل البَنِي إِسْرَائِيلَ - أي حلال الهم - إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ - يعقوب - عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التوْرَاةُ - أي قبل إنزالها - قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَا تْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أمر بمحاجتهم وتبكيتهم.
ومع محاولة البيضاوي ومحايدته فالآية تفيد أن التوراة كانت موجودة في زمن محمد بأيدي اليهود ، وقوله عقب هذه الآية فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك من بعد ما لزمتهم الحجة فأولئك هم الظالمون الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم. وقول البيضاوي أن التوراة كانت عند المدّعي ثقة وحقاً من الله.
وفي سورة المائدة 5 :43 و44 مع ملخص تفسير البيضاوي وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم - إلى أن قال - وفيها حكم الله حال من التوراة وما أولئك بالمؤمنين بكتابهم لإعراضهم عنه وعما يوافقه أو بك وبه إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يهدي إلى الحق ونور يكشف ما اشتبه من الأحكام يحكم بها النبيون من بني إسرائيل أو موسى ومن بعده الذين أسلموا صفة مدح للنبيين الذين هادوا والربانيون والأحبار زهّادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على - النبيون - بما استحفظوا من كتاب الله بسبب أمر الله إياهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف وكانوا عليه شهداء رقباء لا يتركون أن يغيروا أو شهداء يبينون ما خفي منه .
وملخص مفهوم هاتين الآيتين أنه يتعجب من تحكيم اليهود لصاحب القرآن مع أنهم لا يؤمنون به ، والحال أن التوراة التي فيها حكم الله هي عندهم وليسوا بمؤمنين به والحال أن التوراة التي فيها حكم الله هي عندهم ، وليسوا بمؤمنين بالتوراة لإعراضهم عن تحكيمها بينهم. والله أنزل التوراة تهدي إلى الحق ، وهي نور يكشف ما اشتبه من الأحكام. تحكم بها الأنبياء المسلمون أنفسهم لربانيي اليهود ، وتحكم بها أيضاً ربانيوهم وأحبارهم بسبب أمر الله لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، فلذا هم عليه رقباء ، لم يمكّنوا أحداً من تحريفه أو تغييره. فهل هذه الآيات تسمع دعوى التحريف والتغيير للتوراة ،
ومن الأدلة الشاهدة على وجود الكتاب المقدس - أي العهدين الجديد والقديم - بسلامته حين مجيء القرآن ، الاقتباسات الموجودة فيه المصرحة بأنها مقتبسة منهما كما في سورة المائدة 5 :45 وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا - أي في التوراة - أَنَّ النفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ .
فهذه الآية منقولة من سفر الخروج 21 :23-25 ونصه وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْساً بِنَفْسٍ ، وَعَيْناً بِعَيْنٍ ، وَسِنّاً بِسِنٍّ ، وَيَداً بِيَدٍ ، وَرِجْلاً بِرِجْلٍ الخ .
وفي سورة الأنبياء 21 :105 قوله وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ - كتاب داود - مِنْ بَعْدِ الذكْرِ - أي التوراة - أَنَّ الْأَرْضَ - أرض الجنة أو الأرض المقدسة - يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ - عامة المؤمنين ملخصاً من البيضاوي. فهذه الآية مقتبسة من مزمور 37 :29 ونصه الصدِّيقُونَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الْأَبَدِ .
وفي سورة الأعراف 7 :40 قال إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَا سْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فهذه الآية مقتبسة من الإنجيل كما في بشارة متى 19 :24 قال وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً : إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ وفي بشارة مرقس 10 :25 لفظ العدد بعينه وفي بشارة لوقا 18 :25 قال لِأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ إلى آخر العدد بلفظه.
فهذه الاقتباسات الثلاثة ، أحدها من التوراة ، وثانيها من الزبور ، وثالثها من الإنجيل هي برهان جلي بأن الكتب المنزَلة التي كانت بأيدي اليهود والنصارى هي التي بأيدينا الآن ، وتُسمى بالأسماء التي كانت بعينها. ومثال ذلك إذا ما اقتبسنا أبياتاً من مثنوي جلال الدين الرومي أو من الديوان المنسوب لعلي ابن أبي طالب أو من كتاب آخر مشهور ، فمن أول نظرة من القارئ الخبير يحكم حكماً قطعياً بأن هذه المصنفات موجودة في وقتنا الحاضر. كذلك كان ينبغي لعلماء القرآن المنصفين أن يحكموا بأن الآيات التي اقتبسها من الكتاب المقدس تدل على أنه كان موجوداً في زمن محمد ، بل الآيتان المقتبستان من التوراة والزبور في قوله وكتبن الهم فيها أي التوراة وقوله ولقد كتبنا في الزبور فيهما برهان صريح أن هذين السفرين كانا موجودين حينئذ كما هما الآن.
عدا ذلك أن كثيراً من القصص الواردة في القرآن وردت في الكتاب المقدس ، ومن أمثال ذلك قصة يوسف - سورة يوسف - وقد تكون في القرآن مغيرة عن الأصل تغييراً يطابق التقاليد اليهودية المتأخرة أكثر من آيات التوراة المتقدمة ، كما شرحنا ذلك في كتاب تنوير الأفهام في مصادر الإسلام وكذلك يشتمل القرآن على مقتبسات كثيرة جداً من أسفار الكتاب المقدس لا يمكن تعليلها ولا فهمها إلا بمراجعة الأصل ، فنقتصر على ذكر واحدة منها. ورد في سورة آل عمران 3 :93 اسم إسرائيل بدل يعقوب وأنه حرم على نفسه طعاماً. فمن المستحيل أننا نقدر أن نفهم لماذا أبدل اسم يعقوب بإسرائيل ، وما هو نوع الطعام الذي حرمه على نفسه إلا بمراجعة التوراة. اُنظر سفر التكوين 32 :22-31 حيث تجد ذلك مشروحاً شرحاً وافياً.
وورد في الأحاديث المحمدية فقرات منقولة عن الكتاب المقدس. من أمثال ذلك ما ورد في كتاب - مشكاة المصابيح ص487 من طبعة سنة 1297 هـ الباب الأول والفصل الأول في كلامه عن وصف الجنة وأهلها - قال رسول الله قال الله تعالى أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلا يشك أحد أن هذا الحديث منقول من الرسالة الأولى لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس 2 :9. ومما هو جدير بالملاحظة هنا أنه بينما يقرر محمد أن هذا الوصف من كلام الله ينكر كثيرون من علماء الإسلام أن بولس رسولٌ ، وأن رسائله موحى بها من الله.
ينقسم الكتاب المقدس في الغالب إلى قسمين العهد القديم ويتضمن الأسفار المقدسة القانونية عند الأمة اليهودية ، وكُتبت في الأصل باللغة العبرانية ، ما عدا القليل منها فإنه كتب باللغة الآرامية. والعهد الجديد وقد كُتب باللغة اليونانية. أما اليهود فلا يؤمنون إلا بواحد منهما أما نحن المسيحيين فنؤمن بالعهدين كليهما. ولكن القرآن يشير إلى الأسفار المقدسة جميعها بكتاب واحد هو الكتاب المقدس مع أنه يذكر له ثلاثة أقسام وهي التوراة والزبور والإنجيل.
ويقسم اليهود أسفارهم أو كتبهم إلى ثلاثة أقسام وهي الناموس والأنبياء والمزامير ، كما يظهر من بشارة لوقا أصحاح 24 :44. وهذا التقسيم يرجع عهده إلى سنة 130 قبل المسيح - انظر مقدمة يشوع بن سيراخ لمجموعة أمثال جده - وفي الوقت الحاضر يسمي اليهود القسم الثالث الصحف . ولأنها تبتدئ بالمزامير يدعوها القرآن والإنجيل الزبور . ويدعو القرآن القسم الأول توراة هي معدولة من الكلمة العبرانية مع تغيير طفيف في اللفظ. وقد يطلق المسلمون هذا الاسم على الكتاب المقدس كله لأنه يبتدئ بالتوراة. وكثيراً ما يشير القرآن إلى أنبياء العهد القديم ويعلق على الإيمان بهم أهمية عظيمة ، ومن ذلك قوله في سورة البقرة 2 :136 قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وجاء مثل ذلك قي سورة آل عمران 3 :84. من هنا يظهر جلياً أن القرآن يتفق مع الإنجيل في الشهادة بأن كل أسفار الكتاب في تلك الأقسام الثلاثة موحى بها.
وقد يطلق أيضاً المسيحيون اسم الإنجيل على كل أسفار العهد الجديد كما يطلقه عليها القرآن ، ومن أسباب ذلك أن العهد الجديد يبتدئ بالبشائر الأربع ، ومنها أن الإنجيل معناه خبر سار أو بشارة ، وهذا الخبر السار خلاصة العهد الجديد من أوله إلى آخره ، فسُمي به ، وذلك واضح من بشارة مرقس 13 :10 حيث يقول وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ ومن مواضع أخرى كثيرة. وكان العهد الجديد - أي الإنجيل - منتشراً في عصر محمد في قسم عظيم من العالم بين الشعوب المسيحية ، لذلك لم يقتبس منه القرآن فقط آية موجودة في ثلاثة من أقسامه - بشائره - أي بشارة متى 19 :24 وبشارة مرقس 10 :25 وبشارة لوقا 18 :25 كما ورد في سورة الأعراف 7 :40 بل اقتبس منه أيضاً محمد نفسه كما تقدم ذكره. وعلى هذا ينبغي لكل ذي عقل سليم خال من التعصب الذميم أن يعترف بأن القرآن يشير إلى الكتاب المقدس بأنه كتاب منتشر في عصره وموحى به من الله تعالى.
ويذكر القرآن الكتابَ المقدس بالاحترام والتعظيم ، ويلقّبه بأعظم الألقاب ، مثل قوله كلام الله - سورة البقرة 2 :75 - و الفرقان - سورة الأنبياء 21 :48 - و وضياء وذكرى للمتقين - سورة الأنبياء 21 :48 - و كتاب الله - سورة البقرة 2 :101 - . وفي البيضاوي وكتاب أسباب النزول يشير إلى مقام الكتاب المقدس في تفسير آية 23 من سورة آل عمران بأن محمداً طلب من اليهود التوراة لتكون حكماً بينه وبينهم. وفوق ذلك يفيد القرآن أن نوع الوحي الذي أُوحي به إلى محمد كالذي أوحي به إلى الأنبياء المتقدمين ، كما يدل على ذلك قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ - سورة آل عمران 3 :73 - وقوله إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - سورة النساء 4 :163 - وقوله كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - سورة الشورى 42 :3 - . مما ذكر تعلم أن التنزيل المنسوب إلى القرآن يجب أن ينسب إلى الأسفار المتقدمة عليه حيث أن من أول البديهيات المسلم بها في علم أصول الهندسة هو أنه إذا ساوى شيئان ثالثاً فهما متساويان لبعضهم الا محالة
. فأسفار العهدين منزلة من عند الله بنفس التنزيل الذي ينسبه القرآن لنفسه ، وعليه فالقرآن يأمر أتباعه أن يعترفوا بالأسفار المتقدمة عليه كما يعترفون به بلا أقل تمييز ، وهم مأمورون أيضاً أن يعتقدوا بأن القرآن نزل مصدِّق الكتاب اليهود والنصارى ، ومن أمثال ذلك ما ورد في سورة آل عمران 3 :3 و4 نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ولزيادة التوكيد على أن التوراة والإنجيل موحى بهما جاء في القرآن تهديد صارم لمن يكفر بهما أو يظن بهما الظنون ، ومن ذلك قوله الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ - سورة غافر 40 :70-72 - . والبيضاوي في تفسيره هذه الآية يفسر قوله الكتاب بالقرآن أو الكتب السماوية على العموم ويفسر قوله وما أرسلنا به رسلنا بسائر الكتب أو الوحي والشرائع وبمقتضى هذا التفسير على افتراض أن المقصود هنا بالكتاب ليس الكتاب المستعمل في قوله يا أهل الكتاب بل هو القرآن ، تكون الكتب السماوية الأخرى هي أسفار العهد القديم والجديد لا محالة.
ويشهد القرآن أن أسفار العهد القديم تتفق مع أسفار العهد الجديد في المسائل العمومية ، ومن ذلك قوله وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ - سورة المائدة 5 :46 - .
من كل ما أوردناه هنا يتضح :
1 أسفار العهد القديم والجديد ، أي التوراة والزبور وأسفار الأنبياء ، والإنجيل ورسائل رسل المسيح كانت جميعها منتشرة في عصر صاحب القرآن بين اليهود والنصارى.
2 يقرر القرآن أن هذه الأسفار موحى بها من الله ، أي منزلة من عنده.
3 بينما يعظّم القرآن نفسه إلى أعلى درجات التعظيم ، فإنه يساوي بين نفسه وبين الأسفار المقدسة المتقدمة عليه.
4 يسمّي القرآن الكتاب المقدس كتاب الله وكلام الله والفرقان والذكر ونوراً وهدى ورحمة الخ .
5 يأمر القرآن محمداً أو المسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب المقدس في تحقيق ما يرتابون فيه من أصول دينهم ويحرضون النصارى واليهود أن يفعلوا مثل ذلك.
6 يشير القرآن على اليهود أن يتخذوا التوراة حكَمَاً فيما هم فيه يختلفون.
7 يأمر القرآن المسلمين أن يشهدوا أنهم مؤمنون بالكتاب المقدس كما هم مؤمنون بقرآنهم.
8 إن الذين لا يؤمنون بالكتاب المقدس لهم عذاب عظيم في الآخرة كم الو لم يؤمنوا بالقرآن.
وفي سورة البقرة 2 :113 وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكتَابَ ومعنى صيغة قوله - يتلون - إنهم كانوا في ذلك الوقت يتلون التوراة والإنجيل ، وهما موجودان بين أيديهم ، وإلا كان الواجب استعمال صيغة الماضي دلالة على أنهم تلوه في الماضي فقط.
وفي سورة يونس 10 :94 فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَا سْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكتَابَ مِنْ قَبْلِكَ الخ وملخص ما حكاه جل المفسرين أن المخاطَب محمد ، والمراد أمته ، فسؤال أهل الكتاب محقق عندهم ، ثابت في كتبهم ، والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة فإن القرآن مصدق لما فيها. أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أُنزل إليه. أو تهييج الرسول وزيادة تثبيته كما في البيضاوي وخلافه. فألفاظ هذه الآية تؤكد أن الكتاب المقدس كان موجوداً في زمن مجيء القرآن ، وأنه يعترف بصحته ، ويثق به وبقرَّائه من اليهود والنصارى ، وإلا لما جاز له أن يطلب من محمد أو أمته أو كل سامع أن يسألهم ليتثبَّت الإيمان في قلوبهم ويزول عنهم الشك بشهادة هؤلاء الثقات وكتابهم الموجود الذي لم يُغيَّر ولم يُحرَّف. ولا ريب أنه لم يبق عند القارئ شك بسلامة الكتاب إن كان يعتقد بصدق قرآنه.
وقال في سورة الأعراف 7 :159 مادحاً اليهود وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وقال البيضاوي على هذه الآية ما ملخصه ومن بني إسرائيل طائفة يهدون الناس محقين ، أو بكلمة الحق وبالحق يعدلون بينهم في الحكم ، والمراد بها : الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه. وقيل هم مؤمنو أهل الكتاب .
هذه الآية تشهد أن الكتاب المقدس كان موجوداً بصحته وسلامته من كل تغيير في زمن إتيان القرآن ، وكانت أمة موجودة عاملة بأوامره ونواهيه.
وفي سورة آل عمران 3 :23 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ وملخص ما قاله البيضاوي أن سبب نزول هذه الآية أن محمداً دخل مدراس اليهود ، فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أ ي دين أنت ، فقال : على دين إبراهيم. فقال له : إبراهيم كان يهودياً. فقال : هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم ، فأبيا ، فنزلت. وقال - الكتاب - أي التوراة أو جنس الكتب السماوية - يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم - الداعي محمد وكتاب الله التوراة .
فهذه الآية تبين جلياً أن التوراة كانت في زمن صاحب القرآن ، ولثقته بها سماها كتاب الله ، وطلب من خصومه أن تكون حكماً بينهم.
وفي السورة أيضاً آية 93 مع ملخص ما قاله البيضاوي كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِل البَنِي إِسْرَائِيلَ - أي حلال الهم - إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ - يعقوب - عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التوْرَاةُ - أي قبل إنزالها - قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَا تْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أمر بمحاجتهم وتبكيتهم.
ومع محاولة البيضاوي ومحايدته فالآية تفيد أن التوراة كانت موجودة في زمن محمد بأيدي اليهود ، وقوله عقب هذه الآية فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك من بعد ما لزمتهم الحجة فأولئك هم الظالمون الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحق بعد ما وضح لهم. وقول البيضاوي أن التوراة كانت عند المدّعي ثقة وحقاً من الله.
وفي سورة المائدة 5 :43 و44 مع ملخص تفسير البيضاوي وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ تعجب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم - إلى أن قال - وفيها حكم الله حال من التوراة وما أولئك بالمؤمنين بكتابهم لإعراضهم عنه وعما يوافقه أو بك وبه إنا أنزلنا التوراة فيها هدى يهدي إلى الحق ونور يكشف ما اشتبه من الأحكام يحكم بها النبيون من بني إسرائيل أو موسى ومن بعده الذين أسلموا صفة مدح للنبيين الذين هادوا والربانيون والأحبار زهّادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على - النبيون - بما استحفظوا من كتاب الله بسبب أمر الله إياهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف وكانوا عليه شهداء رقباء لا يتركون أن يغيروا أو شهداء يبينون ما خفي منه .
وملخص مفهوم هاتين الآيتين أنه يتعجب من تحكيم اليهود لصاحب القرآن مع أنهم لا يؤمنون به ، والحال أن التوراة التي فيها حكم الله هي عندهم وليسوا بمؤمنين به والحال أن التوراة التي فيها حكم الله هي عندهم ، وليسوا بمؤمنين بالتوراة لإعراضهم عن تحكيمها بينهم. والله أنزل التوراة تهدي إلى الحق ، وهي نور يكشف ما اشتبه من الأحكام. تحكم بها الأنبياء المسلمون أنفسهم لربانيي اليهود ، وتحكم بها أيضاً ربانيوهم وأحبارهم بسبب أمر الله لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، فلذا هم عليه رقباء ، لم يمكّنوا أحداً من تحريفه أو تغييره. فهل هذه الآيات تسمع دعوى التحريف والتغيير للتوراة ،
ومن الأدلة الشاهدة على وجود الكتاب المقدس - أي العهدين الجديد والقديم - بسلامته حين مجيء القرآن ، الاقتباسات الموجودة فيه المصرحة بأنها مقتبسة منهما كما في سورة المائدة 5 :45 وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا - أي في التوراة - أَنَّ النفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ .
فهذه الآية منقولة من سفر الخروج 21 :23-25 ونصه وَإِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْساً بِنَفْسٍ ، وَعَيْناً بِعَيْنٍ ، وَسِنّاً بِسِنٍّ ، وَيَداً بِيَدٍ ، وَرِجْلاً بِرِجْلٍ الخ .
وفي سورة الأنبياء 21 :105 قوله وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ - كتاب داود - مِنْ بَعْدِ الذكْرِ - أي التوراة - أَنَّ الْأَرْضَ - أرض الجنة أو الأرض المقدسة - يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالِحُونَ - عامة المؤمنين ملخصاً من البيضاوي. فهذه الآية مقتبسة من مزمور 37 :29 ونصه الصدِّيقُونَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ وَيَسْكُنُونَهَا إِلَى الْأَبَدِ .
وفي سورة الأعراف 7 :40 قال إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَا سْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فهذه الآية مقتبسة من الإنجيل كما في بشارة متى 19 :24 قال وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً : إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ وفي بشارة مرقس 10 :25 لفظ العدد بعينه وفي بشارة لوقا 18 :25 قال لِأَنَّ دُخُولَ جَمَلٍ إلى آخر العدد بلفظه.
فهذه الاقتباسات الثلاثة ، أحدها من التوراة ، وثانيها من الزبور ، وثالثها من الإنجيل هي برهان جلي بأن الكتب المنزَلة التي كانت بأيدي اليهود والنصارى هي التي بأيدينا الآن ، وتُسمى بالأسماء التي كانت بعينها. ومثال ذلك إذا ما اقتبسنا أبياتاً من مثنوي جلال الدين الرومي أو من الديوان المنسوب لعلي ابن أبي طالب أو من كتاب آخر مشهور ، فمن أول نظرة من القارئ الخبير يحكم حكماً قطعياً بأن هذه المصنفات موجودة في وقتنا الحاضر. كذلك كان ينبغي لعلماء القرآن المنصفين أن يحكموا بأن الآيات التي اقتبسها من الكتاب المقدس تدل على أنه كان موجوداً في زمن محمد ، بل الآيتان المقتبستان من التوراة والزبور في قوله وكتبن الهم فيها أي التوراة وقوله ولقد كتبنا في الزبور فيهما برهان صريح أن هذين السفرين كانا موجودين حينئذ كما هما الآن.
عدا ذلك أن كثيراً من القصص الواردة في القرآن وردت في الكتاب المقدس ، ومن أمثال ذلك قصة يوسف - سورة يوسف - وقد تكون في القرآن مغيرة عن الأصل تغييراً يطابق التقاليد اليهودية المتأخرة أكثر من آيات التوراة المتقدمة ، كما شرحنا ذلك في كتاب تنوير الأفهام في مصادر الإسلام وكذلك يشتمل القرآن على مقتبسات كثيرة جداً من أسفار الكتاب المقدس لا يمكن تعليلها ولا فهمها إلا بمراجعة الأصل ، فنقتصر على ذكر واحدة منها. ورد في سورة آل عمران 3 :93 اسم إسرائيل بدل يعقوب وأنه حرم على نفسه طعاماً. فمن المستحيل أننا نقدر أن نفهم لماذا أبدل اسم يعقوب بإسرائيل ، وما هو نوع الطعام الذي حرمه على نفسه إلا بمراجعة التوراة. اُنظر سفر التكوين 32 :22-31 حيث تجد ذلك مشروحاً شرحاً وافياً.
وورد في الأحاديث المحمدية فقرات منقولة عن الكتاب المقدس. من أمثال ذلك ما ورد في كتاب - مشكاة المصابيح ص487 من طبعة سنة 1297 هـ الباب الأول والفصل الأول في كلامه عن وصف الجنة وأهلها - قال رسول الله قال الله تعالى أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلا يشك أحد أن هذا الحديث منقول من الرسالة الأولى لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس 2 :9. ومما هو جدير بالملاحظة هنا أنه بينما يقرر محمد أن هذا الوصف من كلام الله ينكر كثيرون من علماء الإسلام أن بولس رسولٌ ، وأن رسائله موحى بها من الله.
ينقسم الكتاب المقدس في الغالب إلى قسمين العهد القديم ويتضمن الأسفار المقدسة القانونية عند الأمة اليهودية ، وكُتبت في الأصل باللغة العبرانية ، ما عدا القليل منها فإنه كتب باللغة الآرامية. والعهد الجديد وقد كُتب باللغة اليونانية. أما اليهود فلا يؤمنون إلا بواحد منهما أما نحن المسيحيين فنؤمن بالعهدين كليهما. ولكن القرآن يشير إلى الأسفار المقدسة جميعها بكتاب واحد هو الكتاب المقدس مع أنه يذكر له ثلاثة أقسام وهي التوراة والزبور والإنجيل.
ويقسم اليهود أسفارهم أو كتبهم إلى ثلاثة أقسام وهي الناموس والأنبياء والمزامير ، كما يظهر من بشارة لوقا أصحاح 24 :44. وهذا التقسيم يرجع عهده إلى سنة 130 قبل المسيح - انظر مقدمة يشوع بن سيراخ لمجموعة أمثال جده - وفي الوقت الحاضر يسمي اليهود القسم الثالث الصحف . ولأنها تبتدئ بالمزامير يدعوها القرآن والإنجيل الزبور . ويدعو القرآن القسم الأول توراة هي معدولة من الكلمة العبرانية مع تغيير طفيف في اللفظ. وقد يطلق المسلمون هذا الاسم على الكتاب المقدس كله لأنه يبتدئ بالتوراة. وكثيراً ما يشير القرآن إلى أنبياء العهد القديم ويعلق على الإيمان بهم أهمية عظيمة ، ومن ذلك قوله في سورة البقرة 2 :136 قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وجاء مثل ذلك قي سورة آل عمران 3 :84. من هنا يظهر جلياً أن القرآن يتفق مع الإنجيل في الشهادة بأن كل أسفار الكتاب في تلك الأقسام الثلاثة موحى بها.
وقد يطلق أيضاً المسيحيون اسم الإنجيل على كل أسفار العهد الجديد كما يطلقه عليها القرآن ، ومن أسباب ذلك أن العهد الجديد يبتدئ بالبشائر الأربع ، ومنها أن الإنجيل معناه خبر سار أو بشارة ، وهذا الخبر السار خلاصة العهد الجديد من أوله إلى آخره ، فسُمي به ، وذلك واضح من بشارة مرقس 13 :10 حيث يقول وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ ومن مواضع أخرى كثيرة. وكان العهد الجديد - أي الإنجيل - منتشراً في عصر محمد في قسم عظيم من العالم بين الشعوب المسيحية ، لذلك لم يقتبس منه القرآن فقط آية موجودة في ثلاثة من أقسامه - بشائره - أي بشارة متى 19 :24 وبشارة مرقس 10 :25 وبشارة لوقا 18 :25 كما ورد في سورة الأعراف 7 :40 بل اقتبس منه أيضاً محمد نفسه كما تقدم ذكره. وعلى هذا ينبغي لكل ذي عقل سليم خال من التعصب الذميم أن يعترف بأن القرآن يشير إلى الكتاب المقدس بأنه كتاب منتشر في عصره وموحى به من الله تعالى.
ويذكر القرآن الكتابَ المقدس بالاحترام والتعظيم ، ويلقّبه بأعظم الألقاب ، مثل قوله كلام الله - سورة البقرة 2 :75 - و الفرقان - سورة الأنبياء 21 :48 - و وضياء وذكرى للمتقين - سورة الأنبياء 21 :48 - و كتاب الله - سورة البقرة 2 :101 - . وفي البيضاوي وكتاب أسباب النزول يشير إلى مقام الكتاب المقدس في تفسير آية 23 من سورة آل عمران بأن محمداً طلب من اليهود التوراة لتكون حكماً بينه وبينهم. وفوق ذلك يفيد القرآن أن نوع الوحي الذي أُوحي به إلى محمد كالذي أوحي به إلى الأنبياء المتقدمين ، كما يدل على ذلك قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ - سورة آل عمران 3 :73 - وقوله إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - سورة النساء 4 :163 - وقوله كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - سورة الشورى 42 :3 - . مما ذكر تعلم أن التنزيل المنسوب إلى القرآن يجب أن ينسب إلى الأسفار المتقدمة عليه حيث أن من أول البديهيات المسلم بها في علم أصول الهندسة هو أنه إذا ساوى شيئان ثالثاً فهما متساويان لبعضهم الا محالة
. فأسفار العهدين منزلة من عند الله بنفس التنزيل الذي ينسبه القرآن لنفسه ، وعليه فالقرآن يأمر أتباعه أن يعترفوا بالأسفار المتقدمة عليه كما يعترفون به بلا أقل تمييز ، وهم مأمورون أيضاً أن يعتقدوا بأن القرآن نزل مصدِّق الكتاب اليهود والنصارى ، ومن أمثال ذلك ما ورد في سورة آل عمران 3 :3 و4 نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ولزيادة التوكيد على أن التوراة والإنجيل موحى بهما جاء في القرآن تهديد صارم لمن يكفر بهما أو يظن بهما الظنون ، ومن ذلك قوله الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ - سورة غافر 40 :70-72 - . والبيضاوي في تفسيره هذه الآية يفسر قوله الكتاب بالقرآن أو الكتب السماوية على العموم ويفسر قوله وما أرسلنا به رسلنا بسائر الكتب أو الوحي والشرائع وبمقتضى هذا التفسير على افتراض أن المقصود هنا بالكتاب ليس الكتاب المستعمل في قوله يا أهل الكتاب بل هو القرآن ، تكون الكتب السماوية الأخرى هي أسفار العهد القديم والجديد لا محالة.
ويشهد القرآن أن أسفار العهد القديم تتفق مع أسفار العهد الجديد في المسائل العمومية ، ومن ذلك قوله وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ - سورة المائدة 5 :46 - .
من كل ما أوردناه هنا يتضح :
1 أسفار العهد القديم والجديد ، أي التوراة والزبور وأسفار الأنبياء ، والإنجيل ورسائل رسل المسيح كانت جميعها منتشرة في عصر صاحب القرآن بين اليهود والنصارى.
2 يقرر القرآن أن هذه الأسفار موحى بها من الله ، أي منزلة من عنده.
3 بينما يعظّم القرآن نفسه إلى أعلى درجات التعظيم ، فإنه يساوي بين نفسه وبين الأسفار المقدسة المتقدمة عليه.
4 يسمّي القرآن الكتاب المقدس كتاب الله وكلام الله والفرقان والذكر ونوراً وهدى ورحمة الخ .
5 يأمر القرآن محمداً أو المسلمين أن يرجعوا إلى الكتاب المقدس في تحقيق ما يرتابون فيه من أصول دينهم ويحرضون النصارى واليهود أن يفعلوا مثل ذلك.
6 يشير القرآن على اليهود أن يتخذوا التوراة حكَمَاً فيما هم فيه يختلفون.
7 يأمر القرآن المسلمين أن يشهدوا أنهم مؤمنون بالكتاب المقدس كما هم مؤمنون بقرآنهم.
8 إن الذين لا يؤمنون بالكتاب المقدس لهم عذاب عظيم في الآخرة كم الو لم يؤمنوا بالقرآن.
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
الفصل الثاني
الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ
تبيّن من البراهين التي قدمناها في الفصل السابق أنه ينبغي للمسلمين الخاضعين لأوامر القرآن أن يدرسوا كتاب الله أي أسفار العهدين القديم والجديد. ويحترموه ويطيعوه.
غير أن بعضهم لا يسلم معنا بهذه النتيجة استناداً على دعواه :
1 - إن الكتاب المقدس نُسخ.
2 - أن الأسفار المقدسة المتداولة اليوم ليست هي الأسفار التي ذكرها القرآن وشهد لها.
3 - وبعضهم يقول ربما تكون هي بعينها. إلا أنه اعتراها التحريف والتبديل حتى لم تعد تستحق الكرامة ولا العناية المعطاة لها في القرآن.
فغرضنا من الفصول الآتية البحث في هذه الاعتراضات لنرى صحتها من فسادها. ولنبدأ في هذا الفصل بالبحث عما إذا كان الكتاب المقدس نُسخ حقيقةً كما يزعمون أم لا. نقول إن كانت هذه الاعتراضات في محلها تسقط حجتنا التي قدمناها في الفصل الأول. غير أنه بهذا يضعف نفوذ القرآن.
ولنسلم هنا أن بعض علماء الإسلام يحاولون أن يثبتوا صحة وقوع النسخ على الكتاب المقدس. كالبيضاوي مثلاً. فإنه يقول في تفسيره على قوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ - سورة التوبة 9 :29 - أي الدين الذي ينسخ سائر الأديان ويبطل مفعولها اعتقاداً وعملاً. ثم ورد في كتاب عيون أخبار الرضا فصل 36 قوله : كل نبي كان في أيام موسى وبعده كان على منهاج موسى وشريعته وتابع الكتابه إلى زمن عيسى. وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابع الكتابه. إلى زمن نبينا محمدوشريعة محمدلا تُنسخ إلى يوم القيامة .
وورد في كتاب هداية الطالبين إلى أصول الدين للمولوي محمد تقي الكاشاني الفارسي ما ترجمته إلى العربية إن علماء الإسلام قرروا أن محمداً نبي هذا الزمان. ودينه ناسخ لأديان الأنبياء السابقين - ص 166 .
ورداً على ذلك نقول إن مسألة النسخ وإن كانت مقبولة عند العامة وكثيرين من الخاصة. غير أنه يجب أن نلاحظ أن القرآن لم يشر إليها بكلمة واحدة. ولا أشار إليها الحديث عند السنيين ولا الشيعيين. وبالإجمال أن هذه المسألة تشوِّش تعليم القرآن وتقلبه رأساً على عقب.
إن نسخ بمعنى أُزيل أو أُبطل. لم يرد في القرآن إلا في موضعين اثنين. الأول سورة البقرة 2 :106 وهو قوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا والثاني سورة الحج 22 :52 وهو قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ . فلا توجد في الموضع الأول ولا الموضع الثاني أقل إشارة تدل على أن القرآن ناسخ للكتاب المقدس. بل هو ناسخ لنفسه في بعض أجزائه. حتى أن بعضهم أحصى الآيات المنسوخة من القرآن فبلغت مائتين وخمساً وعشرين آية.
ويخبرنا البيضاوي بأنه توجد قراءات مختلفة لآية سورة البقرة 106. لكن لدى التأمل نجد أن تلك القراءات واحدة في المعنى. ولا يمكن أن يطلق عليها معنى النسخ الذي هو الإزالة أو الإبطال. فالإشارة إذاً إلى نسخ القرآن نفسه في بعض أجزائه.
وإليك مثالاً مشهوراً ذكره البيضاوي في تفسيره النَّسخ المشار إليه في سورة الحج. حيث يبيّن كيف نسخ الله بعض الكلمات من سورة النجم. وهي قوله تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لتُرتجى . وملخص الخبر أنه بينما كان محمد يتلقى الوحي من جبريل ألقى الشيطان على لسانه تلك الكلمات ليستهويه إلى عبادة اللات والعزى ومناة. فقالها كأنه موحى بها من الله. ثم بعد ذلك نسخها الله. وروى هذه القصة يحيى وجلال الدين في تفسيرهما على النَّسخ الوارد في سورة الحج. ورواها ابن هشام عن ابن اسحق في سيرته. وقد ذكرت أيضاً في المواهب اللدنية وذكرها الطبري. وفي هذا القدر كفاية لإقامة الدليل على أن النسخ المعبَّر عنه بقوله فينسخ الله الوارد في سورة الحج هو ما تكلمنا عنه. ومع أن الدعوى بأن الزبور ناسخ للتوراة. والإنجيل ناسخ للزبور دعوى باطلة ليس لها أساس في القرآن ولا في الحديث البتة. وقد راجت بين عوام المسلمين رواجاً عظيماً. ولا بأس أن نورد شهادة بعض العلماء المعتبرين في هذا الصدد :
قال الحاج رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق إن القول بنسخ التوراة بنزول الزبور ونسخ الزبور بظهور الإنجيل بهتان لا أثر له في القرآن ولا في التفاسير. بل لا أثر له في كتاب من الكتب المعتبرة لأهل الإسلام - والزبور عندنا ليس بناسخ للتوراة ولا بمنسوخ من الإنجيل. وكان داود عليه السلام على شريعة موسى عليه السلام. وكان الزبور أدعية . فهذا العالِم ينكر النسخ على هذه الكيفية. وقد صدق في ما قال. لأنه لا يقول بالنسخ أحد إلا إذا كان جاهلا للقرآن وللكتاب المقدس كما سنبينه. اقرأ الكتاب المقدس بتأمل وخشوع حتى تقف على مشتملاته الجوهرية. وحينئذ ترى بمزيد الوضوح أن تعليم أسفار العهدين القديم والجديد واحد. وأنها سائرة على نظام واحد. ووجهتها واحدة مستدرجة في إعلان مقاصد الله الأزلية لبني الإنسان.
ففي أسفار العهد القديم نتعلم كيف خلق الله الإنسان. ثم كيف دخلت الخطية إلى العالم. ويتلو ذلك الوعد الإلهي بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية. وبعد ذلك بمئات السنين نجد أن العالم القديم قد ضل عن عبادة الله ووقع في عبادة الأوثان والرذيلة. وفي ذلك الوقت دعا الله إبراهيم من وسط قومه وأوثق معه ميثاقاً بأن المخلّص من موت الخطية الذي وعد به الجنس البشري يكون من ذرية ابنه الشرعي إسحاق. ثم نجد بعد ذلك أن الله يجدد الميثاق المشار إليه مع إسحاق. فيعقوب. وينبّئهم بأنهم سينزلون إلى مصر. ثم ينجلون عنها إلى أرض كنعان للغاية التي دعاهم إليها.
ثم نزلت التوراة على موسى وقد شملت على هذه المواعيد وزادت عليها مواعيد جديدة تستحق الاعتبار. ثم توالت الأنبياء جيلاً بعد جيل وأتوا بأقوال لا تخرج عن المعاني التي أتى بها موسى. بل غاية ما في الأمر زادتها وضوحاً وبياناً من جهة أن الإنسان خاطئ ولا بد له من مخلّص. ثم أخذوا من وقت إلى آخر يبسطون كلامهم عن ذلك المخلص. فأنبأوا عن أعماله العجيبة. والبلدة التي يولد فيها. وعن آلامه وموته. أما الإنجيل فيخبرنا عن بعض وقائع المخلّص وأعماله التي جاءت موضحة ومتممة لنبوات التوراة والمزامير وكل أسفار العهد القديم.
ثم يخبرنا كيف بعث ذلك المخلّص رسله إلى العالم أجمع وأمرهم أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. وبعد ذلك كيف ينتظرونه حتى يأتي مرة ثانية على سحاب السماء كما وعدهم ليدين الأحياء والأموات. ويعتق الأرض من عبودية الفساد. ويملك إلى الأبد.
وأما أسفار أعمال الرسل ورسائلهم - وهي الأجزاء المتممة لأسفار العهد الجديد فتشرح لنا كيف ابتدأ الرسل بالكرازة بالمسيح. وسفر الرؤيا - خاتمة أسفار العهد الجديد - ينبئنا عن الضيقة العظيمة التي سيقع فيها المؤمنون بالمسيح. ثم النصر العظيم الذي يتبعها.
هذه بالاختصار سلسلة حقائق العهدين من ابتداء سفر التكوين إلى نهاية سفر الرؤيا. فكأن الكتاب المقدس والحالة هذه يشبه عمارة عجيبة. أساسها التوراة والإنجيل ختامها. وكل منهما يظهر حكمة الله وعدالته ومحبته ورحمته الفائقة وأنه خالق كل الأشياء.
ففي توراة موسى يظهر قصد الله من حيث نعمته بكل وضوح. حتى أن الذين عرفوه حسبما هو مبيَّن فيها مالوا إليه وأحبوه وعبدوه وآمنوا به ووجدوا فيه ما يشبع أشواق نفوسهم الخالدة من السلام والسعادة الحقيقية. وفي أسفار الأنبياء والمزامير تعلو هذه الأخبار إلى درجة أرفع من تلك. لأنها تشرح لنا أن الله من البدء اختار بني إسرائيل وهذَّبهم شيئاً فشيئاً صابراً على غلاظة قلوبهم وشر أفعالهم وفشلهم في تأدية ما كلفهم به. وتشرح لنا مسألة أخرى هي أن بعض الرسوم الدينية ومناسك العبادة الخارجية ليست مقصودة في حد ذاتها. ولكنها خصّت ببني إسرائيل ليستعملوها مؤقتاً توصُّلاً إلى قصد معلوم وهو :
.
الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ
تبيّن من البراهين التي قدمناها في الفصل السابق أنه ينبغي للمسلمين الخاضعين لأوامر القرآن أن يدرسوا كتاب الله أي أسفار العهدين القديم والجديد. ويحترموه ويطيعوه.
غير أن بعضهم لا يسلم معنا بهذه النتيجة استناداً على دعواه :
1 - إن الكتاب المقدس نُسخ.
2 - أن الأسفار المقدسة المتداولة اليوم ليست هي الأسفار التي ذكرها القرآن وشهد لها.
3 - وبعضهم يقول ربما تكون هي بعينها. إلا أنه اعتراها التحريف والتبديل حتى لم تعد تستحق الكرامة ولا العناية المعطاة لها في القرآن.
فغرضنا من الفصول الآتية البحث في هذه الاعتراضات لنرى صحتها من فسادها. ولنبدأ في هذا الفصل بالبحث عما إذا كان الكتاب المقدس نُسخ حقيقةً كما يزعمون أم لا. نقول إن كانت هذه الاعتراضات في محلها تسقط حجتنا التي قدمناها في الفصل الأول. غير أنه بهذا يضعف نفوذ القرآن.
ولنسلم هنا أن بعض علماء الإسلام يحاولون أن يثبتوا صحة وقوع النسخ على الكتاب المقدس. كالبيضاوي مثلاً. فإنه يقول في تفسيره على قوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ - سورة التوبة 9 :29 - أي الدين الذي ينسخ سائر الأديان ويبطل مفعولها اعتقاداً وعملاً. ثم ورد في كتاب عيون أخبار الرضا فصل 36 قوله : كل نبي كان في أيام موسى وبعده كان على منهاج موسى وشريعته وتابع الكتابه إلى زمن عيسى. وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابع الكتابه. إلى زمن نبينا محمدوشريعة محمدلا تُنسخ إلى يوم القيامة .
وورد في كتاب هداية الطالبين إلى أصول الدين للمولوي محمد تقي الكاشاني الفارسي ما ترجمته إلى العربية إن علماء الإسلام قرروا أن محمداً نبي هذا الزمان. ودينه ناسخ لأديان الأنبياء السابقين - ص 166 .
ورداً على ذلك نقول إن مسألة النسخ وإن كانت مقبولة عند العامة وكثيرين من الخاصة. غير أنه يجب أن نلاحظ أن القرآن لم يشر إليها بكلمة واحدة. ولا أشار إليها الحديث عند السنيين ولا الشيعيين. وبالإجمال أن هذه المسألة تشوِّش تعليم القرآن وتقلبه رأساً على عقب.
إن نسخ بمعنى أُزيل أو أُبطل. لم يرد في القرآن إلا في موضعين اثنين. الأول سورة البقرة 2 :106 وهو قوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا والثاني سورة الحج 22 :52 وهو قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ . فلا توجد في الموضع الأول ولا الموضع الثاني أقل إشارة تدل على أن القرآن ناسخ للكتاب المقدس. بل هو ناسخ لنفسه في بعض أجزائه. حتى أن بعضهم أحصى الآيات المنسوخة من القرآن فبلغت مائتين وخمساً وعشرين آية.
ويخبرنا البيضاوي بأنه توجد قراءات مختلفة لآية سورة البقرة 106. لكن لدى التأمل نجد أن تلك القراءات واحدة في المعنى. ولا يمكن أن يطلق عليها معنى النسخ الذي هو الإزالة أو الإبطال. فالإشارة إذاً إلى نسخ القرآن نفسه في بعض أجزائه.
وإليك مثالاً مشهوراً ذكره البيضاوي في تفسيره النَّسخ المشار إليه في سورة الحج. حيث يبيّن كيف نسخ الله بعض الكلمات من سورة النجم. وهي قوله تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لتُرتجى . وملخص الخبر أنه بينما كان محمد يتلقى الوحي من جبريل ألقى الشيطان على لسانه تلك الكلمات ليستهويه إلى عبادة اللات والعزى ومناة. فقالها كأنه موحى بها من الله. ثم بعد ذلك نسخها الله. وروى هذه القصة يحيى وجلال الدين في تفسيرهما على النَّسخ الوارد في سورة الحج. ورواها ابن هشام عن ابن اسحق في سيرته. وقد ذكرت أيضاً في المواهب اللدنية وذكرها الطبري. وفي هذا القدر كفاية لإقامة الدليل على أن النسخ المعبَّر عنه بقوله فينسخ الله الوارد في سورة الحج هو ما تكلمنا عنه. ومع أن الدعوى بأن الزبور ناسخ للتوراة. والإنجيل ناسخ للزبور دعوى باطلة ليس لها أساس في القرآن ولا في الحديث البتة. وقد راجت بين عوام المسلمين رواجاً عظيماً. ولا بأس أن نورد شهادة بعض العلماء المعتبرين في هذا الصدد :
قال الحاج رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق إن القول بنسخ التوراة بنزول الزبور ونسخ الزبور بظهور الإنجيل بهتان لا أثر له في القرآن ولا في التفاسير. بل لا أثر له في كتاب من الكتب المعتبرة لأهل الإسلام - والزبور عندنا ليس بناسخ للتوراة ولا بمنسوخ من الإنجيل. وكان داود عليه السلام على شريعة موسى عليه السلام. وكان الزبور أدعية . فهذا العالِم ينكر النسخ على هذه الكيفية. وقد صدق في ما قال. لأنه لا يقول بالنسخ أحد إلا إذا كان جاهلا للقرآن وللكتاب المقدس كما سنبينه. اقرأ الكتاب المقدس بتأمل وخشوع حتى تقف على مشتملاته الجوهرية. وحينئذ ترى بمزيد الوضوح أن تعليم أسفار العهدين القديم والجديد واحد. وأنها سائرة على نظام واحد. ووجهتها واحدة مستدرجة في إعلان مقاصد الله الأزلية لبني الإنسان.
ففي أسفار العهد القديم نتعلم كيف خلق الله الإنسان. ثم كيف دخلت الخطية إلى العالم. ويتلو ذلك الوعد الإلهي بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية. وبعد ذلك بمئات السنين نجد أن العالم القديم قد ضل عن عبادة الله ووقع في عبادة الأوثان والرذيلة. وفي ذلك الوقت دعا الله إبراهيم من وسط قومه وأوثق معه ميثاقاً بأن المخلّص من موت الخطية الذي وعد به الجنس البشري يكون من ذرية ابنه الشرعي إسحاق. ثم نجد بعد ذلك أن الله يجدد الميثاق المشار إليه مع إسحاق. فيعقوب. وينبّئهم بأنهم سينزلون إلى مصر. ثم ينجلون عنها إلى أرض كنعان للغاية التي دعاهم إليها.
ثم نزلت التوراة على موسى وقد شملت على هذه المواعيد وزادت عليها مواعيد جديدة تستحق الاعتبار. ثم توالت الأنبياء جيلاً بعد جيل وأتوا بأقوال لا تخرج عن المعاني التي أتى بها موسى. بل غاية ما في الأمر زادتها وضوحاً وبياناً من جهة أن الإنسان خاطئ ولا بد له من مخلّص. ثم أخذوا من وقت إلى آخر يبسطون كلامهم عن ذلك المخلص. فأنبأوا عن أعماله العجيبة. والبلدة التي يولد فيها. وعن آلامه وموته. أما الإنجيل فيخبرنا عن بعض وقائع المخلّص وأعماله التي جاءت موضحة ومتممة لنبوات التوراة والمزامير وكل أسفار العهد القديم.
ثم يخبرنا كيف بعث ذلك المخلّص رسله إلى العالم أجمع وأمرهم أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. وبعد ذلك كيف ينتظرونه حتى يأتي مرة ثانية على سحاب السماء كما وعدهم ليدين الأحياء والأموات. ويعتق الأرض من عبودية الفساد. ويملك إلى الأبد.
وأما أسفار أعمال الرسل ورسائلهم - وهي الأجزاء المتممة لأسفار العهد الجديد فتشرح لنا كيف ابتدأ الرسل بالكرازة بالمسيح. وسفر الرؤيا - خاتمة أسفار العهد الجديد - ينبئنا عن الضيقة العظيمة التي سيقع فيها المؤمنون بالمسيح. ثم النصر العظيم الذي يتبعها.
هذه بالاختصار سلسلة حقائق العهدين من ابتداء سفر التكوين إلى نهاية سفر الرؤيا. فكأن الكتاب المقدس والحالة هذه يشبه عمارة عجيبة. أساسها التوراة والإنجيل ختامها. وكل منهما يظهر حكمة الله وعدالته ومحبته ورحمته الفائقة وأنه خالق كل الأشياء.
ففي توراة موسى يظهر قصد الله من حيث نعمته بكل وضوح. حتى أن الذين عرفوه حسبما هو مبيَّن فيها مالوا إليه وأحبوه وعبدوه وآمنوا به ووجدوا فيه ما يشبع أشواق نفوسهم الخالدة من السلام والسعادة الحقيقية. وفي أسفار الأنبياء والمزامير تعلو هذه الأخبار إلى درجة أرفع من تلك. لأنها تشرح لنا أن الله من البدء اختار بني إسرائيل وهذَّبهم شيئاً فشيئاً صابراً على غلاظة قلوبهم وشر أفعالهم وفشلهم في تأدية ما كلفهم به. وتشرح لنا مسألة أخرى هي أن بعض الرسوم الدينية ومناسك العبادة الخارجية ليست مقصودة في حد ذاتها. ولكنها خصّت ببني إسرائيل ليستعملوها مؤقتاً توصُّلاً إلى قصد معلوم وهو :
.
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
1 - إيجاد فاصل مميز بين اليهود والأمم إلى أن يأتي المخلّص الموعود به.
2 - لتعليمهم بأن تلك الطقوس وإن كانت مؤيَّدة بأوامر إلهية. فليست إلا رموز الحقائق روحية. لأن العبادة المقبولة عند الله لا تقوم بشكلها الظاهر فقط. بل بالحالة التي يكون عليها قلب العابد حيث قال المسيح : اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا - يوحنا 4 :24 .
ومما يدل على أن تلك الطقوس. ليست مقصودة لذاتها ما قاله صموئيل النبي هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالمُحْرَقَاتِ وَالذبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ .هُوَذَا الاِسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذبِيحَةِ وَالْإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكبَاشِ - 1 صموئيل 15 :22 . وورد في سفر ميخا النبي أن ملكاً يُسمى بالاق سأل : بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلْإِلَهِ الْعَلِيِّ .هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ. بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ .هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكبَاشِ. بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ .هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي. ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي .فجاءه الجواب من قبل النبي مصرحاً بعدم فائدة الشعائر التي عدَّدها في سؤاله. ما لم تكن مقرونة بتكريس الحياة والقلب لله وهاك نص الجواب : قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ. وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ. إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ. وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ - ميخا 6 :6-8 .
والسيد المسيح يوافق على هذا التعليم كل الموافقة بأصرح الأقوال وهاك ما قاله : تَأْتِي سَاعَةٌ. وَهِيَ الْآنَ. حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا - يوحنا 4 :23 و24 . ولما أعلنت هذه الأسرار الروحية والتعاليم الراقية وقدمت الكفارة عن خطايا العالم أجمع - انظر1 يوحنا 2 :2 - ودرّب المسيح الحواريين وأرسلهم ليكرزوا ويبشروا بالإنجيل في كل أقطار المسكونة ويعرضوا على بني آدم هبة الله المجانية وهي الحياة الأبدية - انظر رومية 6 :23 - معطي الهم قدرة ومعونة حتى يقيموهم من قبور خطاياهم إلى حياة البر والفضيلة ويملأوا الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر - إشعياء 11 :9 . ولما تم كل هذا آن الآوان الذي ينبغي فيه حل رموز تلك العبادة القائمة بالذبائح والبخور والغسل إلى غير ذلك مما هو مذكور بالتفصيل في التوراة بالعبادة الروحية التي كانت ترمز إليها تلك الرسوم الظاهرة. ولولا العبادة الروحية لكانت تلك الرسوم خالية من الفائدة. وإذا جاء
الصريح استُغني عن الرمز كما يُستغنى عن القشرة بعد نضوج الحبة. وإلى هذا المعنى أشار إرميا النبي فقال هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لِأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ : أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَأَكُونُ لَهُمْ إِل هاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً - إرميا 31 :31-33 . ومن هذه الآيات أخذنا كلمة - العهد الجديد - وجعلناها اسما للإنجيل. وهو الجزء الثاني من الكتاب المقدس. ولاحظ كيف تتفق هذه الآيات مع قول المسيح الذي أشرنا إليه آنفاً في بشارة يوحنا 4 :23 و24. فإنه يتبين أن كل الطقوس والشعائر اليهودية الوقتية - أو كما يسميها بعضهم الشريعة الطقسية - قد تمت تماماً في ملء روحانية العهد الجديد الذي نوى المسيح أن يعقده مع كل من يؤمن به من أية أمة كانت على الأرض. ومن أجل ذلك قال المسيح بهذا الصدد خطاب الامرأة من السامرة يَا امْرَأَةُ. صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ. لَا فِي هذَا الْجَبَلِ. وَلَا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلْآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَالسْتُمْ تَعْلَمُونَ. أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لِأَنَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ. وَهِيَ الْآنَ. حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا - يوحنا 4 :21-24 .
ثم أن الجواب الذي أجابت به تلك المرأة المسيح يدل على أن مسألة إتمام العهد القديم بالعهد الجديد. أو بعبارة أخرى إيضاح العبادة الطقسية بالعبادة الروحية. كان معروفاً ومنتظر اليس فقط عند اليهود الأتقياء - انظر بشارة لوقا 2 :29 - بل وعند المحققين من السامريين - انظر بشارة يوحنا 4 :12-23 - واقتبس أحد الحواريين مقالة إرميا التي ذكرناها آنفاً في هذا الصدد. وبيّن أن ذكر العهد الجديد الذي بشر به إرميا يدل على أن يهود عصره كانوا يعتقدون بأن الطقس الموسوي شاخ وهرم وقارب الاضمحلال واحتاج الحال إلى العهد الجديد - انظر رسالة العبرانيين 8 :13 - الذي لا يبطل التوراة بل يكشف الحجاب عن حقائقها - انظر إنجيل متى 5 :17 و18 - واعلم أن الحق بحسب جوهره ثابت ودائم غير قابل التبديل ولا النسخ. فالحقائق التي وردت في العهد القديم يجب أن تبقى حقاً إلى م الا نهاية. ولا يُقال إن العهد الجديد نسخها. بل يُقال إنه شرحها وأبرزها في شكلها الروحي الذي يلائم الناس في كل زمان ومكان.
العهد القديم كان بين الله وبني إسرائيل فقط. ومدته انتهت بمجيء المسيح وتأسيس ملكوته. وأما العهد الجديد الذي تنبأ به إرميا النبي فعهد بين الله والمؤمنين بالمسيح سواء كانوا من بني إسرائيل أو من الأمم فهذا العهد الأخير أعم وأهم من الأول. لأن الأول كان قائماً على فرائض وطقوس ورسوم. تدرِّب بني إسرائيل فقط على إدراك الحقائق الروحية تدريجياً استعداد الأن يكونوا تلاميذ للمسيح وأساتذة العالم أجمع. فالعهد الأول والحالة هذه يشبه بزرة محصورة في دائرة ضيقة. وأما العهد الجديد فيشبه شجرة متأصلة نامية شاغلة مكاناً متسعاً. فكأن بزرة العهد القديم أنبتت شجرة العهد الجديد. والاثنان واحد جوهراً وإن اختلفا ظاهراً.
وحيث كان الأمر كذلك فمن الخطأ المعيب أن يُقال بإن العهد القديم منسوخ والعهد الجديد ناسخ. ولعل الذين قالوا هذا القول لاحظوا الطقوس والفرائض التي خصّت ببني إسرائيل وأُهملت من جانب المسيحيين فنجيب عن ذلك أن تلك الطقوس الإسرائيلية هي بذاتها أنتجت العبادات الروحية للمسيحيين. كما تنتج البزرة شجرة تُرى كأنها شيء جديد. والحقيقة هي أنها البزرة بعينها إنما أخذت شكلاً آخر اتِّباع الناموس النمو والارتقاء. فلا يصحّ أن يُقال إن الشجرة نسخت البزرة ومحت أثرها من صحيفة الوجود. بل أتمتها وأظهرت قوتها وإنتاجها بشكل محسوس.
ولا يبرح من ذهنك أن وصايا التوراة نوعان : طقسية وأدبية. والأولى كانت خاصة ببني إسرائيل. والكثير منه الم يكن مشروعاً إلا عندما أُوحي إلى موسى بالتوراة على جبل سيناء. ومن أجل ذلك لم يكن إبراهيم مكلفاً منها إلا بالختان. وهذه ملاحظة جديرة بالالتفات. لأنها تدل على أن نفوذ الوصايا الطقسية محصور ووقتي حتى أنه لم يشمل إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وذريتهم إلى زمن موسى. فالغرض إذاً من هذه الوصايا الطقسية هو كما أسلفنا بيانه أمران : الأول. لأجل أن يعزل اليهود عن الأمم عزلة تامة صون الهم من السقوط في الوثنية التي كان لها السلطان الأعظم في تلك العصور المظلمة. واستدامت هذه العزلة إلى مجيء المسيح وتأسيس كنيسته على الأرض. والثاني. حتى يتعلّموا عملياً أن العبادات الظاهرة القائمة في المناسك وإن كانت موحى بها من الله ليست مقصودة لذاتها ولا تروي النفس المتعطشة إلى الله. بل غاية ما هنالك يرمز بها إلى حقائق روحية هي المقصودة بالذات كما شرحناها في غير هذا الموضع - قارن مزمور 51 :16 و17 - وبين ما تم مع المسيح. فلم تكن تلك الوصايا مفروضة على الأمم. وقد ضعف تأثيرها على بني إسرائيل أنفسهم منذ قيامة المسيح من الأموات.
أما الوصايا الأدبية فهي أزلية أبدية. والناس ملتزمون بها في كل زمان ومكان. وإن كان أُوحي بها إلى موسى. إلا أن الالتزام بها من بدء الخليقة إلى منتهاها. فمن الوصايا الأدبية : لا تزن. لا تسرق. لا تقتل. لا تعبد الأصنام. فهذه الوصايا متعلقة بذات الله تعالى وطبيعته القدوسة. من أجل ذلك ينبغي أن تكون من الأزل إلى الأبد. ولا معنى للناسخ والمنسوخ في هذا المقام. فمن يزعم أن الإنجيل ينسخ التوراة هو على خطأ وجهل. مطبق وما الإنجيل بناسخ للتوراة بل مصدق وشارح لمعانيه ورافع لرسومه من الجسديات إلى الروحيات. ولهذا السبب ورد في الإنجيل أقوال تفوق الحصر من التوراة في مواضيع مختلفة. مشروحة شرحاً وافياً ومدققاً. ولقد صدق القرآن حيث أفاد في وصفه الإنجيل بكونه مصدقا للتوراة كما جاء في سورة المائدة 5 :46 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .
ولنكرر القول هنا إن الوصايا الواردة في التوراة ولم يلتزم بها المسيحيون ما هي إلا الوصايا الطقسية. على أن الإنجيل لم ينسخها ولم يبطلها بل قد أكملها وبلغها إلى درجة رضوان الله الكامل. ومن أمثلة ذلك ما ورد في التوراة أن الله فرض على بني إسرائيل تقديم الذبائح الذي كان مستعملاً من بدء الخليقة عند كل الشعوب. وأمرهم أن يقدموها في أوقات معلومة ولغايات مختلفة. منها التكفير عن الخطايا. ولا يُعقل بداهة أن تقديم ذبائح الحيوانات يرفع خطايا البشر. وقد لاحظ ذلك داود النبي فقال لِأَنَّكَ لَا تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلَّا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لَا تَرْضَى - مزمور 51 :16 - وقد كمل الإنجيل التوراة في هذا الموضوع حيث يقول :
لِأَنَّ النامُوسَ. إِذْ لَهُ ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ لَا نَفْسُ صُورَةِ الْأَشْيَاءِ. لَا يَقْدِرُ أَبَداً بِنَفْسِ الذبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ. التي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ. أَنْ يُكَمِّلَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ. وَإِلَّا. َفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ .مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْخَادِمِينَ. وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً. لَا يَكُونُ لَهُمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا. ل كِنْ فِيهَا كُلَّ سَنَةٍ ذِكْرُ خَطَايَا. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا. لِذ لِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ : ذَبِيحَةً وَقُرْبَان المْ تُرِدْ. وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ : هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي. لِأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا اَللّه . إِذْ يَقُولُ آنِفاً : إِنَّكَ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً وَمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُرِدْ وَلَا سُرِرْتَ بِهَا . التي تُقَدَّمُ حَسَبَ النامُوسِ. ثُمَّ قَالَ : هَئَنَذَا أَجِيءُ لِأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ . يَنْزِعُ الْأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ. فَبِهذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً - عبرانيين 10 :1-10 .
كشف إشعياء النبي لنا سلفاً عن المقصود من تلك الذبائح الحيوانية في إنبائه عن حمل الله - إشعياء 53 - الذي كان ناوياً على تقديمه من بدء الخليقة - رؤيا 13 :8 .
وحيث أن هذا الذبح العظيم الذي كانت تشير إليه الذبائح الحيوانية قد حدث تقديمه. فلا لزوم لتلك الذبائح الحيوانية بعده. أما المسيحيون فلا يقدمونها اكتفاء بذبيحة المسيح. ولا يقدمها اليهود لأنهم أُمروا في التوراة أن لا يقدموا ذبيحة إلا في أروشليم داخل أسوار هيكل سليمان. ومن المعلوم أن الهيكل خرب وزال من الوجود. وبُني على آثاره جامع عمر وهو باق إلى اليوم. ومع أن المسيحيين لا يقدمون ذبائح حيوانية لكنهم لا يزالون يقدمون ذبائح ذات شأن عظيم عند الله. وهي ذبائح نفوسهم. أي يضحّون بأجسادهم وأرواحهم ونفوسهم ليكونوا ذبائح حية مقدسة مرضية عند الله الحي الأزلي. وبهذا يتممون المعنى الروحي المقصود من المحرقات المفروضة في شريعة موسى. وأشار إلى هذه الذبائح الرسول بولس بقوله : فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ. عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلَا تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ. بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ. لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكامِلَةُ - رومية 12 :1 و2 . ويشير إليها أيضاً بطرس الرسول بقوله كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ. بَيْتاً رُوحِيّاً. كَهَنُوتاً مُقَدَّساً. لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ - 1 بطرس 2 :5 -
وقد شرَّعت التوراة فريضة غسل الجسد. ولا شك أن الغرض من هذا هو :
1 - تنظيف الجسد. فإن الله يحب أن تكون أجسادنا نظيفة وبصحة معتدلة حسب الحالة التي فُطرنا عليها. لأنه من المحتمل أن وساخة الجسد تدنس الروح.
2 - حتى يتعلم الإنسان بالاختبار أن تنظيف الجسد وغسله مراراً وتكرار الا يطهر القلب من الأهواء الفاسدة. ولا يخلي الذهن من الأفكار الدنسة. ولا يمنح النفس مغفرة عن خطاياها السالفة. وعليه تحتاج نفوسنا إلى القداسة التي بدونه الا يعاين أحد الرب.
وقد ثبت أن الغسل اليهودي عديم التأثير وبعبارة أخرى لا يمكن أن يقدس النفس. وما هو إلا ظل ورمز إلى غسل أجلّ وأسمى وهو الغسل الروحي السماوي الذي يمكن الحصول عليه بدم المسيح فقط الذي بالإيمان به نطهر من كل خطية. من أجل ذلك ينبغي للمسيحيين الحقيقيين أن يمتثلوا أمر الرسول الصادر في هذا الشأن حيث يقول لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ. مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ - 2 كورنثوس 7 :1 . فتطهير الجسد والروح لازم لهما ولكن يجب أن نحاذر من أن نجعل تطهير الجسد علة لتطهير الروح.
2 - لتعليمهم بأن تلك الطقوس وإن كانت مؤيَّدة بأوامر إلهية. فليست إلا رموز الحقائق روحية. لأن العبادة المقبولة عند الله لا تقوم بشكلها الظاهر فقط. بل بالحالة التي يكون عليها قلب العابد حيث قال المسيح : اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا - يوحنا 4 :24 .
ومما يدل على أن تلك الطقوس. ليست مقصودة لذاتها ما قاله صموئيل النبي هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالمُحْرَقَاتِ وَالذبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ .هُوَذَا الاِسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذبِيحَةِ وَالْإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكبَاشِ - 1 صموئيل 15 :22 . وورد في سفر ميخا النبي أن ملكاً يُسمى بالاق سأل : بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى الرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلْإِلَهِ الْعَلِيِّ .هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ. بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ .هَلْ يُسَرُّ الرَّبُّ بِأُلُوفِ الْكبَاشِ. بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ .هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي. ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي .فجاءه الجواب من قبل النبي مصرحاً بعدم فائدة الشعائر التي عدَّدها في سؤاله. ما لم تكن مقرونة بتكريس الحياة والقلب لله وهاك نص الجواب : قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ. وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ. إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ. وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ - ميخا 6 :6-8 .
والسيد المسيح يوافق على هذا التعليم كل الموافقة بأصرح الأقوال وهاك ما قاله : تَأْتِي سَاعَةٌ. وَهِيَ الْآنَ. حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا - يوحنا 4 :23 و24 . ولما أعلنت هذه الأسرار الروحية والتعاليم الراقية وقدمت الكفارة عن خطايا العالم أجمع - انظر1 يوحنا 2 :2 - ودرّب المسيح الحواريين وأرسلهم ليكرزوا ويبشروا بالإنجيل في كل أقطار المسكونة ويعرضوا على بني آدم هبة الله المجانية وهي الحياة الأبدية - انظر رومية 6 :23 - معطي الهم قدرة ومعونة حتى يقيموهم من قبور خطاياهم إلى حياة البر والفضيلة ويملأوا الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر - إشعياء 11 :9 . ولما تم كل هذا آن الآوان الذي ينبغي فيه حل رموز تلك العبادة القائمة بالذبائح والبخور والغسل إلى غير ذلك مما هو مذكور بالتفصيل في التوراة بالعبادة الروحية التي كانت ترمز إليها تلك الرسوم الظاهرة. ولولا العبادة الروحية لكانت تلك الرسوم خالية من الفائدة. وإذا جاء
الصريح استُغني عن الرمز كما يُستغنى عن القشرة بعد نضوج الحبة. وإلى هذا المعنى أشار إرميا النبي فقال هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لِأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الْأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ : أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَأَكُونُ لَهُمْ إِل هاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً - إرميا 31 :31-33 . ومن هذه الآيات أخذنا كلمة - العهد الجديد - وجعلناها اسما للإنجيل. وهو الجزء الثاني من الكتاب المقدس. ولاحظ كيف تتفق هذه الآيات مع قول المسيح الذي أشرنا إليه آنفاً في بشارة يوحنا 4 :23 و24. فإنه يتبين أن كل الطقوس والشعائر اليهودية الوقتية - أو كما يسميها بعضهم الشريعة الطقسية - قد تمت تماماً في ملء روحانية العهد الجديد الذي نوى المسيح أن يعقده مع كل من يؤمن به من أية أمة كانت على الأرض. ومن أجل ذلك قال المسيح بهذا الصدد خطاب الامرأة من السامرة يَا امْرَأَةُ. صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ. لَا فِي هذَا الْجَبَلِ. وَلَا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلْآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَالسْتُمْ تَعْلَمُونَ. أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لِأَنَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ. وَهِيَ الْآنَ. حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلْآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ. لِأَنَّ الْآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّه رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا - يوحنا 4 :21-24 .
ثم أن الجواب الذي أجابت به تلك المرأة المسيح يدل على أن مسألة إتمام العهد القديم بالعهد الجديد. أو بعبارة أخرى إيضاح العبادة الطقسية بالعبادة الروحية. كان معروفاً ومنتظر اليس فقط عند اليهود الأتقياء - انظر بشارة لوقا 2 :29 - بل وعند المحققين من السامريين - انظر بشارة يوحنا 4 :12-23 - واقتبس أحد الحواريين مقالة إرميا التي ذكرناها آنفاً في هذا الصدد. وبيّن أن ذكر العهد الجديد الذي بشر به إرميا يدل على أن يهود عصره كانوا يعتقدون بأن الطقس الموسوي شاخ وهرم وقارب الاضمحلال واحتاج الحال إلى العهد الجديد - انظر رسالة العبرانيين 8 :13 - الذي لا يبطل التوراة بل يكشف الحجاب عن حقائقها - انظر إنجيل متى 5 :17 و18 - واعلم أن الحق بحسب جوهره ثابت ودائم غير قابل التبديل ولا النسخ. فالحقائق التي وردت في العهد القديم يجب أن تبقى حقاً إلى م الا نهاية. ولا يُقال إن العهد الجديد نسخها. بل يُقال إنه شرحها وأبرزها في شكلها الروحي الذي يلائم الناس في كل زمان ومكان.
العهد القديم كان بين الله وبني إسرائيل فقط. ومدته انتهت بمجيء المسيح وتأسيس ملكوته. وأما العهد الجديد الذي تنبأ به إرميا النبي فعهد بين الله والمؤمنين بالمسيح سواء كانوا من بني إسرائيل أو من الأمم فهذا العهد الأخير أعم وأهم من الأول. لأن الأول كان قائماً على فرائض وطقوس ورسوم. تدرِّب بني إسرائيل فقط على إدراك الحقائق الروحية تدريجياً استعداد الأن يكونوا تلاميذ للمسيح وأساتذة العالم أجمع. فالعهد الأول والحالة هذه يشبه بزرة محصورة في دائرة ضيقة. وأما العهد الجديد فيشبه شجرة متأصلة نامية شاغلة مكاناً متسعاً. فكأن بزرة العهد القديم أنبتت شجرة العهد الجديد. والاثنان واحد جوهراً وإن اختلفا ظاهراً.
وحيث كان الأمر كذلك فمن الخطأ المعيب أن يُقال بإن العهد القديم منسوخ والعهد الجديد ناسخ. ولعل الذين قالوا هذا القول لاحظوا الطقوس والفرائض التي خصّت ببني إسرائيل وأُهملت من جانب المسيحيين فنجيب عن ذلك أن تلك الطقوس الإسرائيلية هي بذاتها أنتجت العبادات الروحية للمسيحيين. كما تنتج البزرة شجرة تُرى كأنها شيء جديد. والحقيقة هي أنها البزرة بعينها إنما أخذت شكلاً آخر اتِّباع الناموس النمو والارتقاء. فلا يصحّ أن يُقال إن الشجرة نسخت البزرة ومحت أثرها من صحيفة الوجود. بل أتمتها وأظهرت قوتها وإنتاجها بشكل محسوس.
ولا يبرح من ذهنك أن وصايا التوراة نوعان : طقسية وأدبية. والأولى كانت خاصة ببني إسرائيل. والكثير منه الم يكن مشروعاً إلا عندما أُوحي إلى موسى بالتوراة على جبل سيناء. ومن أجل ذلك لم يكن إبراهيم مكلفاً منها إلا بالختان. وهذه ملاحظة جديرة بالالتفات. لأنها تدل على أن نفوذ الوصايا الطقسية محصور ووقتي حتى أنه لم يشمل إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط وذريتهم إلى زمن موسى. فالغرض إذاً من هذه الوصايا الطقسية هو كما أسلفنا بيانه أمران : الأول. لأجل أن يعزل اليهود عن الأمم عزلة تامة صون الهم من السقوط في الوثنية التي كان لها السلطان الأعظم في تلك العصور المظلمة. واستدامت هذه العزلة إلى مجيء المسيح وتأسيس كنيسته على الأرض. والثاني. حتى يتعلّموا عملياً أن العبادات الظاهرة القائمة في المناسك وإن كانت موحى بها من الله ليست مقصودة لذاتها ولا تروي النفس المتعطشة إلى الله. بل غاية ما هنالك يرمز بها إلى حقائق روحية هي المقصودة بالذات كما شرحناها في غير هذا الموضع - قارن مزمور 51 :16 و17 - وبين ما تم مع المسيح. فلم تكن تلك الوصايا مفروضة على الأمم. وقد ضعف تأثيرها على بني إسرائيل أنفسهم منذ قيامة المسيح من الأموات.
أما الوصايا الأدبية فهي أزلية أبدية. والناس ملتزمون بها في كل زمان ومكان. وإن كان أُوحي بها إلى موسى. إلا أن الالتزام بها من بدء الخليقة إلى منتهاها. فمن الوصايا الأدبية : لا تزن. لا تسرق. لا تقتل. لا تعبد الأصنام. فهذه الوصايا متعلقة بذات الله تعالى وطبيعته القدوسة. من أجل ذلك ينبغي أن تكون من الأزل إلى الأبد. ولا معنى للناسخ والمنسوخ في هذا المقام. فمن يزعم أن الإنجيل ينسخ التوراة هو على خطأ وجهل. مطبق وما الإنجيل بناسخ للتوراة بل مصدق وشارح لمعانيه ورافع لرسومه من الجسديات إلى الروحيات. ولهذا السبب ورد في الإنجيل أقوال تفوق الحصر من التوراة في مواضيع مختلفة. مشروحة شرحاً وافياً ومدققاً. ولقد صدق القرآن حيث أفاد في وصفه الإنجيل بكونه مصدقا للتوراة كما جاء في سورة المائدة 5 :46 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .
ولنكرر القول هنا إن الوصايا الواردة في التوراة ولم يلتزم بها المسيحيون ما هي إلا الوصايا الطقسية. على أن الإنجيل لم ينسخها ولم يبطلها بل قد أكملها وبلغها إلى درجة رضوان الله الكامل. ومن أمثلة ذلك ما ورد في التوراة أن الله فرض على بني إسرائيل تقديم الذبائح الذي كان مستعملاً من بدء الخليقة عند كل الشعوب. وأمرهم أن يقدموها في أوقات معلومة ولغايات مختلفة. منها التكفير عن الخطايا. ولا يُعقل بداهة أن تقديم ذبائح الحيوانات يرفع خطايا البشر. وقد لاحظ ذلك داود النبي فقال لِأَنَّكَ لَا تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلَّا فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لَا تَرْضَى - مزمور 51 :16 - وقد كمل الإنجيل التوراة في هذا الموضوع حيث يقول :
لِأَنَّ النامُوسَ. إِذْ لَهُ ظِلُّ الْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ لَا نَفْسُ صُورَةِ الْأَشْيَاءِ. لَا يَقْدِرُ أَبَداً بِنَفْسِ الذبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ. التي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى الدَّوَامِ. أَنْ يُكَمِّلَ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ. وَإِلَّا. َفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ .مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْخَادِمِينَ. وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً. لَا يَكُونُ لَهُمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا. ل كِنْ فِيهَا كُلَّ سَنَةٍ ذِكْرُ خَطَايَا. لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا. لِذ لِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ : ذَبِيحَةً وَقُرْبَان المْ تُرِدْ. وَلكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ : هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ الْكتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي. لِأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا اَللّه . إِذْ يَقُولُ آنِفاً : إِنَّكَ ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً وَمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُرِدْ وَلَا سُرِرْتَ بِهَا . التي تُقَدَّمُ حَسَبَ النامُوسِ. ثُمَّ قَالَ : هَئَنَذَا أَجِيءُ لِأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللهُ . يَنْزِعُ الْأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ. فَبِهذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً - عبرانيين 10 :1-10 .
كشف إشعياء النبي لنا سلفاً عن المقصود من تلك الذبائح الحيوانية في إنبائه عن حمل الله - إشعياء 53 - الذي كان ناوياً على تقديمه من بدء الخليقة - رؤيا 13 :8 .
وحيث أن هذا الذبح العظيم الذي كانت تشير إليه الذبائح الحيوانية قد حدث تقديمه. فلا لزوم لتلك الذبائح الحيوانية بعده. أما المسيحيون فلا يقدمونها اكتفاء بذبيحة المسيح. ولا يقدمها اليهود لأنهم أُمروا في التوراة أن لا يقدموا ذبيحة إلا في أروشليم داخل أسوار هيكل سليمان. ومن المعلوم أن الهيكل خرب وزال من الوجود. وبُني على آثاره جامع عمر وهو باق إلى اليوم. ومع أن المسيحيين لا يقدمون ذبائح حيوانية لكنهم لا يزالون يقدمون ذبائح ذات شأن عظيم عند الله. وهي ذبائح نفوسهم. أي يضحّون بأجسادهم وأرواحهم ونفوسهم ليكونوا ذبائح حية مقدسة مرضية عند الله الحي الأزلي. وبهذا يتممون المعنى الروحي المقصود من المحرقات المفروضة في شريعة موسى. وأشار إلى هذه الذبائح الرسول بولس بقوله : فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ. عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلَا تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ. بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ. لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكامِلَةُ - رومية 12 :1 و2 . ويشير إليها أيضاً بطرس الرسول بقوله كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ. بَيْتاً رُوحِيّاً. كَهَنُوتاً مُقَدَّساً. لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ - 1 بطرس 2 :5 -
وقد شرَّعت التوراة فريضة غسل الجسد. ولا شك أن الغرض من هذا هو :
1 - تنظيف الجسد. فإن الله يحب أن تكون أجسادنا نظيفة وبصحة معتدلة حسب الحالة التي فُطرنا عليها. لأنه من المحتمل أن وساخة الجسد تدنس الروح.
2 - حتى يتعلم الإنسان بالاختبار أن تنظيف الجسد وغسله مراراً وتكرار الا يطهر القلب من الأهواء الفاسدة. ولا يخلي الذهن من الأفكار الدنسة. ولا يمنح النفس مغفرة عن خطاياها السالفة. وعليه تحتاج نفوسنا إلى القداسة التي بدونه الا يعاين أحد الرب.
وقد ثبت أن الغسل اليهودي عديم التأثير وبعبارة أخرى لا يمكن أن يقدس النفس. وما هو إلا ظل ورمز إلى غسل أجلّ وأسمى وهو الغسل الروحي السماوي الذي يمكن الحصول عليه بدم المسيح فقط الذي بالإيمان به نطهر من كل خطية. من أجل ذلك ينبغي للمسيحيين الحقيقيين أن يمتثلوا أمر الرسول الصادر في هذا الشأن حيث يقول لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ. مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ - 2 كورنثوس 7 :1 . فتطهير الجسد والروح لازم لهما ولكن يجب أن نحاذر من أن نجعل تطهير الجسد علة لتطهير الروح.
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
وشرَّعت التوراة أيضاً أن الذبائح يجب أن تُقدَّم في مكان معلوم - انظر التثنية 12 :13 - وهو المكان الذي يختاره الرب ليجعل عليه اسمه. وفي ذلك معنى رمزي يشير إلى مسكنه - انظر التثنية 12 :5 - والمكان الأول الذي اختاره الرب لهذه الغاية كان شيلوه - انظر يشوع 18 :1 - ثم اختار أورشليم مع أن الملك سليمان صرح بأن الهيكل الذي بناه مسكناللرب في أورشليم ليس بالحقيقة مسكن اله بل رمزاً وعلامة محسوسة على وجوده تعالى بين شعبه. ويدل على ذلك قوله لِأَنَّهُ هَلْ يَسْكُنُ الل هُ حَقّاً عَلَى الْأَرْضِ .هُوَذَا السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ لَا تَسَعُكَ. فَكَمْ بِالأَقَلِّ هذَا الْبَيْتُ الَّذِي بَنَيْتُ . - 1 ملوك 8 :27 . وأيَّد النبي إشعياء كلام سليمان في هذه المسألة في قوله لِأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ. سَاكِنُ الْأَبَدِ. الْقُدُّوسُ اسْمُهُ : فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ. وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ. لِأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَلِأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ - إشعياء 57 :15 . ثم صادق المسيح على هذا الفكر وأيده بأقوال كثيرة بما معناه لا ينبغي أن يُسجَد لله في مكان خاص. وأن العبادة الخالصة مقبولة عن الله بدون اعتبار المكان - يوحنا 4 :21-24 - وزاد هذا الاعتقاد تمكناً ورسوخاً بعد أن قدم المسيح نفسه ذبيحة خارج أسوار أورشليم. مرة واحدة أغنتنا عن ألوف من الذبائح والمحرقات. ومن ذلك الوقت فصاعد الم يبق وجهٌ معقول لتخصيص بقعة من الأرض للعبادة ولنسبة القداسة والبركة إليها بنوع خصوصي فترى من هنا أن العهد الجديد ليس محصوراً بين أمة ولا في إقليم دون آخر. بل هو متسع لقبول من يؤمن بالمسيح من أية أمة وبلاد على وجه الأرض بحيث تمنح له حصته من بركات الله ومزايا الإيمان.
قد رأينا كفاية لعدم لزوم تخصيص مكان للعبادة أو تقديم الذبائح كما كان الحال في شيلوه وهيكل سليمان. ولكن الله خصص شخصاً حياً هيكلاً روحي اليس بنياناً من طوب وطين. ففيه وحده تقبل العبادة وتقدم الذبائح الروحية التي أشرنا إليها آنفاً. وهذا الشخص هو يسوع المسيح. فعلى المسيحي الحقيقي أن يقدم نفسه لله ذبيحة حية مقدسة لا في مكان مخصص بل في شخص المسيح. لكي يحوز باستحقاقه القبول والرضا عند الله. فترى مما تقدم أن شريعة الذبائح المفروضة في التوراة تمت في العهد الجديد. وارتفعت إلى اعتبار أكرم ومعنى أسمى. وتم ذلك في الساعة التي استغنى فيها الحال عن حرفية هذه الشريعة وتوضحت روحانيتها.
ثم فرض في التوراة ثلاثة أعياد لليهود. وأُمرت ذكورهم أن يصعدوا في كل عيد إلى المكان الذي اختاره الرب ليظهروا أمامه - خروج 23 :14 و17 وتثنية 16 :16 . غير أن اليهود على مرّ السنين والأزمان غالوا في الاعتبار الخارجي لهذه الأعياد وظنوا أنهم بذلك يحرزون رضا الله والتقرُّب إليه. وإن كانوا يهملون التقوى الحقيقية فلهم في حفظ هذه الأعياد ما يكفر ذنوبهم. فغضب الله عليهم وكره أعيادهم وأرسل إليهم أنبياءه ببلاغ مخصوص في هذا المعنى. ومن ذلك قوله رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي. صَارَتْ عَلَيَّ ثِقْلاً. مَلِلْتُ حِمْلَهَا. فَحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ. وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصلَاةَ لَا أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلْآنَةٌ دَماً. اِغْتَسِلُوا. تَنَقُّوا. ا عْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ الخ - إشعياء 1 :14-17 وعاموس 5 :21 . من هنا ترى أنه لا يحوز القبول لدى الله إلا الذين يتقدمون إليه بالروح والحق. وهذا ممكن نواله في العهد الجديد بالإيمان الحي بكفارة المسيح. ويدل على ذلك قوله وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ. فِي الْأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ. قَدْ صَالَحَكُمُ - المسيح - الْآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالمَوْتِ. لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلَالوْمٍ وَلَا شَكْوَى أَمَامَهُ - كولوسي 1 :22 . وقوله فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الْأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ. طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً. بِالحِجَابِ. أَيْ جَسَدِهِ. وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ. لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الْإِيمَانِ. مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ. وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ - عبرانيين 10 :19-22 -
وفرض في التوراة الختان وجعل علامة للعهد المأخوذ بين الله وهو الطرف الأول وبين إبراهيم ونسله وهو الطرف الثاني. ولكنه مشروط على الذين يتَّسمون بهذه العلامة أن يؤمنوا بوعد الله - أنه يتناسل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب نسل تتبارك به جميع قبائل الأرض - تكوين 27 :1-14 و18 :18 و22 :18 و26 :4 . وكرر الله شريعة الختان على يد موسى النبي - لاويين 12 :3 - على أن الغاية المقصودة منه هي تمييز اليهود عن الأمم. ولم يكن تحقيقها في ذلك الوقت لأن كثيراً من الأمم كانوا مختتنين. فلا بد أن يكون القصد منه والحالة هذه أن يتعلم اليهود أن يختنوا قلوبهم من الشهوات الحيوانية. والتوراة نفسها تؤيد هذا التأويل ومن ذلك قوله فَا خْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ - تثنية 10 :16 . وفي مواضع أخرى يفسر ختن القلب بالحب الخالص لله حيث يقول وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ. لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا - تثنية 30 :6 . وكذلك أسفار العهد الجديد تنسج على هذا المنوال - رومية 2 :25 و28 و29 .
ولما أكمل العهد القديم بالعهد الجديد عيَّن الله لهذا علامةً بدل الختان. وهي فريضة المعمودية. يوسم بها من يؤمن بالمسيح من أية أمة كانت على وجه الأرض - متى 28 :19 - وهذا العلامة الجديدة مناسبة لكل الرجال والنساء والكبار والصغار. وأنها كالختان تعلّم نقاوة القلب. وحلَّ العماد محل الختان للتمييز بين المؤمنين بالمسيح وبين اليهود والأمم الذين يمارس كثير منهم الختان. وأما ما يشير إليه الختان وهو طهارة القلب والنية فتشير إليه المعمودية من باب أولى - كولوسي 3 :5-17 .
وفي العهد القديم فرائض أخرى كثيرة ضربنا عنها صفحاً مكتفين بالذي عددناه والمراد منها توجيه القلب إلى حقائق روحية واستيعابها. ومتى أدركناه الم تبق حاجة إلى ممارسة فرائضها المنظورة. بل تكون مضرَّة إذ يُخشى على الذين يستعملونها أن يتمسكوا بالعرض دون الجوهر كما جرى لليهود الذين تمسكوا بطقوس ورسوم تشير إلى المسيح ورفضوا المسيح نفسه وظنوا أنهم ناجحون بفضل هذا التمسك الباطل.
إذا لم ينسخ الإنجيل التوراة بل أثبتها ورفع درجة طقوسها ورسومها إلى روحانية العبادة. وهذا ما عناه السيد المسيح بقوله : لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النامُوسَ أَوِ الْأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ : إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌوَاحِدَةٌ مِنَ النامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكلُّ - متى 5:17 و18 . هذه هي علاقة الإنجيل بالتوراة.
أما من جهة الوصايا الأخلاقية فقد ذكرنا أنها موافقة لإرادة الله وصفاته. فلا تقبل التغيير ولا النسخ. بل تبقى ثابتة إلى ما لا نهاية كما أن صفات الله ثابتة. فهي في العهد القديم عينها في العهد الجديد. إلا أنها مشروحة في الأخير شرحاً مدققاً وبالغة حد الكمال. ومن أمثلة ذلك أن القتل محرَّم في التوراة - خروج 20 :30 وتثينة 5 :17 - أما المسيح فقد شرح القتل في الإنجيل بإحساسات الغضب التي إن لم تُخمَد أدَّت إلى القتل المريع - متى 5 :21 و22 . ثم أن الزنا محرم في التوراة - خروج 20 :14 وتثنية 5 :18 - أما المسيح فيعتبر كل نظرة إلى النساء بشهوة هو زنا - متى 5 :27 و28 - وقال شارحاً الزنى إنه وإن كان موسى أباح الطلاق لليهود لقساوة قلوبهم. فهو يحرمه إل العلة الزنى. ويعتبر الطلاق بغير هذه العلة زنى وتسهيلاللغير عليه أيضاً - متى 5 :31 و32 .
وقد حرمت التوراة القَسَم بغير الله. وكذا حرمت النطق به كذباً أو باطلاً - خروج 20 :7 ولاويين 19 :12 وتثنية 6 :11 - فلما جاء المسيح وجد اليهود يستعملون الأقسام في كلامهم الاعتيادي. فنهاهم عن ذلك وأمرهم بترك القسم قطعياً من غير ضرورة. وأن يتكلموا بالصدق إيجاباً وسلباً : نعم نعم لا لا - متى 5 :23-37 .
وأمرت التوراة بني إسرائيل أن يحب كل منهم قريبه كنفسه - اللاويين 19 :18 - وفسر علماؤهم القريب المذكور هنا بمن كان من أمتهم. وأما الغريب فخارجٌ عن حدود هذه الوصية. ولهذا جرى لسانهم في اقتباسها بهذا المعنى أن يحبوا أمتهم ويبغضوا الأجانب. أما المسيح ففي شرحه هذه الوصية أوجب المحبة للقريب والغريب والعدو والصديق - متى 5 :43-48 - وكان بنو إسرائيل في زمن موسى يصعب حتى على خيارهم أن يخمدوا ثورة غضبهم ويتحاشوا جريمة القتل مخافة من الله. كما وأنه كان يصعب عليهم حفظ الوصايا الأخرى الناهية عن السرقة والطمع والزنى. أما في زمن المسيح لعلهم كانوا أحسن حالاً وأطيب قلب الطول عهدهم بالأنبياء والرسل وتأثير الروح القدس. حتى لم يعد يصعب عليهم حفظ هذه الوصايا وأمثالها. إلا مَن كان متوغلاً في الشر منهم. ولهذه المناسبة كان عليهم أن يرتقوا في معارج الفضيلة ويُكلَّفون بوصايا أخلاقية في منتهى الصلاح والكمال لم يحلم بها أفاضل أسلافهم. وفي ذلك الوقت جاء المسيح وفسر لهم الوصايا الأخلاقية الواردة في شريعة موسى بغاية الدقة والضبط حتى بلغت الكمال. ثم قرن تعليمه بالعمل في كل أيام حياته. وصار ممكناً بفضل قدرته المباركة ونعمة الله ومعونة الروح القدس أن يبلغ المؤمن بالمسيح حتى المحتقرون منهم إلى أعلى طبقات البر والصلاح ويسبقوا خيار بني إسرائيل في هذا المضمار.
لقد نهت شريعة موسى عن كل عمل شرير. وأما شريعة المسيح فلم تقف عند هذا الحد فقط بل تجاوزته إلى النهي عن الأفكار الشريرة. جاءت شريعة موسى بعبارة سلبية تعدّد ما نهى عنه الله. أما شريعة المسيح فأحاطت بالسلب والإيجاب. فكما نهت عن فعل الشر أمرت بفعل الخير. من أجل ذلك كان يقع تحت طائلة العقاب بموجب شريعة العقاب كل من يعمل الشر. وأما بموجب شريعة المسيح فيقع تحت طائلة موسى كل من لم يفعل الخير وإن كان بريئاً من فعل الشر. ومن أقوال المسيح في هذا المعنى مثل مشهور هو مثل السامري الصالح أوجب فيه المسيح دينونة كاهن ولاوي لم يسعفا رجلاً جريحاً بل تركاه ومضيا - لوقا 10 :30-37 - ومنها مثل العبد الذي أخذ من سيده وزنة ولم يتاجر بها. بل صرّها في منديل وحفظها عنده. فأوجب عليه العقوبة مع أنه لم يختلس من المال درهماً واحداً. لكنه لم يربح فوقه. وذلك كناية عن عدم فعل الخير - لوقا 19 :20-24 .
نهت شريعة موسى بني إسرائيل عن أن يخالطوا الأمم حذراً من أن ينقادوا الى عبادتهم الوثنية وفعالهم المنكرة. وأما شريعة المسيح فلا تقف معنا عند حد السلامة من دين الوثنيين وأفعالهم. بل توجب علينا أن نبشرهم بالمسيح ونعلمهم معرفة الإله الحقيقي حتى نربحهم ونضمهم إلى صفوفنا. إلا أنه من بعض الوجوه يوجد فرق ضروري بين العهد القديم والجديد. الأول علَّم الناس أنهم خطاة وذوو طبيعة خاطئة أمام نظر الله القدوس. وأمرهم أن يلقوا رجاءهم على مخلّص آتٍ يولد من عذراء في بيت لحم ويقدم نفسه كفارة عن خطاياهم. وأما العهد الثاني فهو يبشر بأن المخلّص الموعود به قد جاء وقدَّم نفسه كفارة. ليس عن خطايا اليهود فقط بل عن خطايا العالم كله. ولم يبق عليهم إلا أن يؤمنوا به فيخلصون. ولكن هذا الفرق وحده هو تتميم في الزمان الثاني لما سبق به الوعد في الزمن الأول.
ربما يظهر للبعض أنه لمناسبة تقدم العالم في المدنية والحضارة فالدين الذي كان ملائماللناس في زمن موسى لم يلائمهم في زمن المسيح إذ أنه عتق وشاخ. ومثل ذلك الدين الذي وضعه المسيح إذ مرَّ عليه ستماية سنة عتق وشاخ أيضاً ولم يعد يلائم العالم في عصر محمد. فولى الأدبار أيضاً وقام مقامه الإسلام.
فرداً على ذلك نقول :
1 - بما أن الطقوس والرسوم الدينية هي رموز تشبيهية. فيجوز أن تهرم وتشيخ متى أتى المرموز إليه. وعوضاً عما كانت مفيدة في زمن الرمز به الا تكون مفيدة في العصور الأخرى. بل ربما أضرّت. أما المبادئ الجوهرية للدين الحق فلا تقبل التغيير. ولا يؤثر عليها مرور القرون واختلاف العصور كالشريعة الأخلاقية. فإنها إن كانت حقاً وواجبة في زمن تبقى كذلك في كل الأزمان. فمبادئ شريعة موسى الأخلاقية كانت حقاً في زمن آدم وإبراهيم والمسيح. وهي حقٌّ في هذا الزمان. وتبقى حقاً إلى يوم القيامة بل إلى م الا نهاية له. لأن جوهر الدين الحق لا يقبل التغيير ولا يعجز عن التأثير.
2 - نقول إن كان العالم قد تقدم في المدنية والعلم يقتضي تقدمه في الدين أيضاً. ولو سلمنا جدلاً أن عصر محمد وجزيرة العرب مسقط رأسه كانا أكثر حضارة وأرقى مدنيّة من بلاد فلسطين ومن الأمة اليهودية في عصر المسيح. واقتضى تنزيل دين الإسلام راقياً كرقي الديانة المسيحية على الأقل من حيث المبادئ الأخلاقية وروحانية العبادة والعتق من نير الطقوس اليهودية المتراكمة. فهل الإسلام راقٍ هذا الرقي من هذه الحيثيات. أم يرجع القهقرى إلى زمن موسى .إننا نترك الحكم لأهل الإنصاف والخبرة بالتوراة والإنجيل والقرآن.
3 - نقول إن الطبيعة البشرية واحدة في كل العصور من احتياجاتها وميولها والفساد المتسلط عليها. لذلك يحتاج البشر أجمعون إلى روح الله القدوس ليطهر قلوبهم من زمن مضى أو حاضر أو مستقبل. إلا أن ابن آدم يميل للخطية ويحتاج إلى يد تنتشله وتقرّبه إلى الله على الرغم من ميوله الطبيعية. وهذه اليد الناشلة لا يمكن الوصول إليها إلا إن كان يتفضل الله علينا ويحبنا أولاً ويكون هو البادئ بالصلح. نعم هذا هو الإنجيل بعينه. لأنه إعلان محبة الله للعالم الأثيم. قال الرسول يوحنا أحد الحواريين الاثني عشر نحبّه لأنه أحبنا أولاً - 1 يوحنا 4 :19 - فهذه الطريقة هي أرقى وأنجع وأفضل طريقة معقولة لاجتذاب الإنسان إلى الله ومصالحته مع خالقه ولا يقدر العقل البشري أن يتصوّر وسيلة دينية تحمل الإنسان على إنكار نفسه. والارتفاع في درجات الصلاح والتعبد لله مثل الإيمان بأن الله أحبنا أولاً وبذل ابنه من أجلنا.
ونزيد قائلين إن دعواهم بأن التوراة منسوخة دعوى منقوضة بأقوال الأنبياء والرسل الصريحة. ومن ذلك قول إشعياء النبي مشيراً إلى أسفار العهد القديم طبعاً يَبِسَ الْعُشْبُ. ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الْأَبَدِ - إشعياء 40 :8 . ويؤيد المسيح هذه الحقيقة داحضاً وقوع النسخ على أسفار العهد القديم. ومثبتاً بقاء كلماتها إلى الأبد. أو على الأقل مدة وجود العالم ومن ذلك قوله : اَلسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ تَزُولَانِ وَلكنَّ كَلَامِي لَا يَزُولُ - متى 24 :35 ومرقس 13 :31 ولوقا 21 :33 .
ولعل معترضاً يقول إن المسيح قصد بقاء كلامه في تلك المواضع إلى زمن حصار أورشليم بواسطة جيش تيطس أي سنة 70 للميلاد. فنجيب أن من يطالع هذه الأصحاحات الثلاثة ويلاحظ سياق الكلام فيها. يحكم لأول وهلة أن إشارة المسيح ليس إلى حصار أو خراب أورشليم. بل إلى منتهى العالم إلى يوم القيامة حين يأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات - متى 24 :30 و31 ومرقس 13 :26 و27 ولوقا 21 :27 و28 - لأنه لما أشار إلى الضيقات الهائلة التي ستحيق بالعالم في آخر الزمان وتغيُّر وجه الأرض كان من المناسب أن يطمئن المؤمنين به بأن كلامه يبقى ثابتاً - وكذلك القرآن يثبت أن لا تغيير لكلمات الله - انظر سورة الأنعام 6 :34 و115 وسورة يونس 10 :64 وسورة الكهف 18 :27 . لا يتغير ولا يزول حتى يتمسكوا به في أوقات الشدائد. ومما يدل على أن كلام المسيح باق إلى يوم القيامة قوله مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كَلَامِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكَلَامُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ - يوحنا 12 :48 . وهذا الدليل لا يجهله أحد. لأنه إن كنا سنُدان في اليوم الأخير بموجب إنجيل المسيح. فيقتضي أن يبقى الإنجيل بدون تبديل إلى يوم الدين. وقد أمرنا الإنجيل أمراً صريحاً أنه إن جاءنا أعظم عظيم. ولو ملاك من السماء. وبشَّرنا بخلاف ما ورد في الإنجيل وادّعى بأنه مرسل من الله يكون ملعوناً - غلاطية 1 :8 - ولهذه الأسباب ابتعد المسيحيون الحقيقيون عن ضلالات الأنبياء الكذبة الذين ظهروا بعد المسيح وادّعوا بأنهم هم المشار إليهم في الإنجيل بالفارقليط مثل ماني الفارسي وغيره. وكذلك لم يتوقعوا وحياً جديداً غير المتضمن في العهد الجديد.
ولا يبرح من بالك أن قصد المسيح من دوام كلامه وبقاء كل لفظة من ألفاظ العهد القديم والجديد على وضعها الأصلي شيئان مختلفان لأن قصد المسيح من دوام كلامه وكلام العهدين بقاء معانيهم الا ألفاظهما. فلا يجهل عالِم بأصول اللغة أن المعنى هو المراد لا الألفاظ التي هي آلة للتعبير. إذ قد توجد قراءات مختلفة لنسخ العهدين. كما توجد قراءات في القرآن وكل الكتب القديمة لكنه الا تغيّر المعنى. ولم تمس مبدأً من مبادئ الدين في العهدين.
وقد يقول قائل : يُؤخذ من كلام المسيح من حيث بقاء كلمة الله في العهد القديم والجديد بدون تبديل أنه لا يجوز تبديل الطقوس والرسوم الخارجية الواردة في التوراة. ولكنها تبدَّلت بالإنجيل. فنقول إننا أجبنا على هذا الاعتراض في ما تقدم بما فيه الكفاية. ولا بأس من تكرار الجواب بأن الطقوس والرسوم الخارجية الواردة في التوراة لم تبدّل بالحقيقة. بل تقدَّمت وتكمَّلت كما علّم المسيح نفسه - متى 5 :17 - ومن أمثلة ذلك أن المسيح أصلح كيفية الصيام مع أن أنبياء العهد القديم لم يأمروا به ولا نهوا عنه. بل غاية ما في الأمر أنه كان محترماً عند اليهود - متى 6 :16-18 . وقول بعضهم إن أمر المسيح الوارد في الإنجيل - متى 5 :17 - وتصريحه في متى 15 :24 منسوخان كلاهما بأمره الوارد في ختام هذه البشارة. فنجيب قائلين : إن الأوامر الوقتية يجب أن تكون وقتية. فمتى نُفِّذت تماماً انتهت. فلا يُقال إنها نُسخت. ولا أُبطلت. وإثبات ذلك ظاهر من معنى كلام السيد المسيح أنه لم يقصد حصر التلاميذ في بلاد فلسطين دائماً أبداً. لأنه له المجد هو نفسه لم يتجاوز حدود فلسطين إلا هذه المرة التي استدعته إلى القول المشار إليه. فلا يُعتبر عدم سفره نهياً صريحا للتلاميذ عن السفر دائماً. ولا أن رسالتهم مختصة في بني إسرائيل فقط.
ولنرجع الآن إلى الحقائق المذكورة في التوراة فنقول إنها أيضا لا تقبل النسخ. وإثبات ذلك سهل جداً. لأنه من البديهي لكل ذي فهم أن الحقيقة الواردة في الكتاب كواقعة حال يجب أن تكون صدقاً أو كذباً. أما كونها كذباً فلم يدَّعِ هذه الدعوى أحدُ من المسلمين. وأما كونها صدقاً فيستحيل نسخها كما هو مستحيل لأي حادث أن يُمحى من بطون التاريخ. ويُمحى أثره من صحيفة الوجود وفي هذا كفاية.
والآن وقد أتينا في هذا الفصل بمزيد الوضوح والجلاء بأن كل تعاليم العهد القديم والجديد الجوهرية لا تقبل التغيير ولا النسخ. لأنها تمثل للناس إرادة الله وصفاته وهي منزَّهة عن التغيير والتبديل في كل العصور والآباد. وعليه فطريق الخلاص واحدة في كل الأجيال. وسيُدان الناس في اليوم الآخِر بموجب تعليم المسيح الذي رأى إبراهيم يومه بعين الإيمان وفرح به. وبالإيمان باسمه يخلُص كل إنسان. حتى الأنبياء والمرسلين.
قد رأينا كفاية لعدم لزوم تخصيص مكان للعبادة أو تقديم الذبائح كما كان الحال في شيلوه وهيكل سليمان. ولكن الله خصص شخصاً حياً هيكلاً روحي اليس بنياناً من طوب وطين. ففيه وحده تقبل العبادة وتقدم الذبائح الروحية التي أشرنا إليها آنفاً. وهذا الشخص هو يسوع المسيح. فعلى المسيحي الحقيقي أن يقدم نفسه لله ذبيحة حية مقدسة لا في مكان مخصص بل في شخص المسيح. لكي يحوز باستحقاقه القبول والرضا عند الله. فترى مما تقدم أن شريعة الذبائح المفروضة في التوراة تمت في العهد الجديد. وارتفعت إلى اعتبار أكرم ومعنى أسمى. وتم ذلك في الساعة التي استغنى فيها الحال عن حرفية هذه الشريعة وتوضحت روحانيتها.
ثم فرض في التوراة ثلاثة أعياد لليهود. وأُمرت ذكورهم أن يصعدوا في كل عيد إلى المكان الذي اختاره الرب ليظهروا أمامه - خروج 23 :14 و17 وتثنية 16 :16 . غير أن اليهود على مرّ السنين والأزمان غالوا في الاعتبار الخارجي لهذه الأعياد وظنوا أنهم بذلك يحرزون رضا الله والتقرُّب إليه. وإن كانوا يهملون التقوى الحقيقية فلهم في حفظ هذه الأعياد ما يكفر ذنوبهم. فغضب الله عليهم وكره أعيادهم وأرسل إليهم أنبياءه ببلاغ مخصوص في هذا المعنى. ومن ذلك قوله رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي. صَارَتْ عَلَيَّ ثِقْلاً. مَلِلْتُ حِمْلَهَا. فَحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ. وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصلَاةَ لَا أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلْآنَةٌ دَماً. اِغْتَسِلُوا. تَنَقُّوا. ا عْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ الخ - إشعياء 1 :14-17 وعاموس 5 :21 . من هنا ترى أنه لا يحوز القبول لدى الله إلا الذين يتقدمون إليه بالروح والحق. وهذا ممكن نواله في العهد الجديد بالإيمان الحي بكفارة المسيح. ويدل على ذلك قوله وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ. فِي الْأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ. قَدْ صَالَحَكُمُ - المسيح - الْآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالمَوْتِ. لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلَالوْمٍ وَلَا شَكْوَى أَمَامَهُ - كولوسي 1 :22 . وقوله فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الْأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ. طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً. بِالحِجَابِ. أَيْ جَسَدِهِ. وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ. لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الْإِيمَانِ. مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ. وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ - عبرانيين 10 :19-22 -
وفرض في التوراة الختان وجعل علامة للعهد المأخوذ بين الله وهو الطرف الأول وبين إبراهيم ونسله وهو الطرف الثاني. ولكنه مشروط على الذين يتَّسمون بهذه العلامة أن يؤمنوا بوعد الله - أنه يتناسل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب نسل تتبارك به جميع قبائل الأرض - تكوين 27 :1-14 و18 :18 و22 :18 و26 :4 . وكرر الله شريعة الختان على يد موسى النبي - لاويين 12 :3 - على أن الغاية المقصودة منه هي تمييز اليهود عن الأمم. ولم يكن تحقيقها في ذلك الوقت لأن كثيراً من الأمم كانوا مختتنين. فلا بد أن يكون القصد منه والحالة هذه أن يتعلم اليهود أن يختنوا قلوبهم من الشهوات الحيوانية. والتوراة نفسها تؤيد هذا التأويل ومن ذلك قوله فَا خْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ - تثنية 10 :16 . وفي مواضع أخرى يفسر ختن القلب بالحب الخالص لله حيث يقول وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ. لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا - تثنية 30 :6 . وكذلك أسفار العهد الجديد تنسج على هذا المنوال - رومية 2 :25 و28 و29 .
ولما أكمل العهد القديم بالعهد الجديد عيَّن الله لهذا علامةً بدل الختان. وهي فريضة المعمودية. يوسم بها من يؤمن بالمسيح من أية أمة كانت على وجه الأرض - متى 28 :19 - وهذا العلامة الجديدة مناسبة لكل الرجال والنساء والكبار والصغار. وأنها كالختان تعلّم نقاوة القلب. وحلَّ العماد محل الختان للتمييز بين المؤمنين بالمسيح وبين اليهود والأمم الذين يمارس كثير منهم الختان. وأما ما يشير إليه الختان وهو طهارة القلب والنية فتشير إليه المعمودية من باب أولى - كولوسي 3 :5-17 .
وفي العهد القديم فرائض أخرى كثيرة ضربنا عنها صفحاً مكتفين بالذي عددناه والمراد منها توجيه القلب إلى حقائق روحية واستيعابها. ومتى أدركناه الم تبق حاجة إلى ممارسة فرائضها المنظورة. بل تكون مضرَّة إذ يُخشى على الذين يستعملونها أن يتمسكوا بالعرض دون الجوهر كما جرى لليهود الذين تمسكوا بطقوس ورسوم تشير إلى المسيح ورفضوا المسيح نفسه وظنوا أنهم ناجحون بفضل هذا التمسك الباطل.
إذا لم ينسخ الإنجيل التوراة بل أثبتها ورفع درجة طقوسها ورسومها إلى روحانية العبادة. وهذا ما عناه السيد المسيح بقوله : لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النامُوسَ أَوِ الْأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ : إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌوَاحِدَةٌ مِنَ النامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكلُّ - متى 5:17 و18 . هذه هي علاقة الإنجيل بالتوراة.
أما من جهة الوصايا الأخلاقية فقد ذكرنا أنها موافقة لإرادة الله وصفاته. فلا تقبل التغيير ولا النسخ. بل تبقى ثابتة إلى ما لا نهاية كما أن صفات الله ثابتة. فهي في العهد القديم عينها في العهد الجديد. إلا أنها مشروحة في الأخير شرحاً مدققاً وبالغة حد الكمال. ومن أمثلة ذلك أن القتل محرَّم في التوراة - خروج 20 :30 وتثينة 5 :17 - أما المسيح فقد شرح القتل في الإنجيل بإحساسات الغضب التي إن لم تُخمَد أدَّت إلى القتل المريع - متى 5 :21 و22 . ثم أن الزنا محرم في التوراة - خروج 20 :14 وتثنية 5 :18 - أما المسيح فيعتبر كل نظرة إلى النساء بشهوة هو زنا - متى 5 :27 و28 - وقال شارحاً الزنى إنه وإن كان موسى أباح الطلاق لليهود لقساوة قلوبهم. فهو يحرمه إل العلة الزنى. ويعتبر الطلاق بغير هذه العلة زنى وتسهيلاللغير عليه أيضاً - متى 5 :31 و32 .
وقد حرمت التوراة القَسَم بغير الله. وكذا حرمت النطق به كذباً أو باطلاً - خروج 20 :7 ولاويين 19 :12 وتثنية 6 :11 - فلما جاء المسيح وجد اليهود يستعملون الأقسام في كلامهم الاعتيادي. فنهاهم عن ذلك وأمرهم بترك القسم قطعياً من غير ضرورة. وأن يتكلموا بالصدق إيجاباً وسلباً : نعم نعم لا لا - متى 5 :23-37 .
وأمرت التوراة بني إسرائيل أن يحب كل منهم قريبه كنفسه - اللاويين 19 :18 - وفسر علماؤهم القريب المذكور هنا بمن كان من أمتهم. وأما الغريب فخارجٌ عن حدود هذه الوصية. ولهذا جرى لسانهم في اقتباسها بهذا المعنى أن يحبوا أمتهم ويبغضوا الأجانب. أما المسيح ففي شرحه هذه الوصية أوجب المحبة للقريب والغريب والعدو والصديق - متى 5 :43-48 - وكان بنو إسرائيل في زمن موسى يصعب حتى على خيارهم أن يخمدوا ثورة غضبهم ويتحاشوا جريمة القتل مخافة من الله. كما وأنه كان يصعب عليهم حفظ الوصايا الأخرى الناهية عن السرقة والطمع والزنى. أما في زمن المسيح لعلهم كانوا أحسن حالاً وأطيب قلب الطول عهدهم بالأنبياء والرسل وتأثير الروح القدس. حتى لم يعد يصعب عليهم حفظ هذه الوصايا وأمثالها. إلا مَن كان متوغلاً في الشر منهم. ولهذه المناسبة كان عليهم أن يرتقوا في معارج الفضيلة ويُكلَّفون بوصايا أخلاقية في منتهى الصلاح والكمال لم يحلم بها أفاضل أسلافهم. وفي ذلك الوقت جاء المسيح وفسر لهم الوصايا الأخلاقية الواردة في شريعة موسى بغاية الدقة والضبط حتى بلغت الكمال. ثم قرن تعليمه بالعمل في كل أيام حياته. وصار ممكناً بفضل قدرته المباركة ونعمة الله ومعونة الروح القدس أن يبلغ المؤمن بالمسيح حتى المحتقرون منهم إلى أعلى طبقات البر والصلاح ويسبقوا خيار بني إسرائيل في هذا المضمار.
لقد نهت شريعة موسى عن كل عمل شرير. وأما شريعة المسيح فلم تقف عند هذا الحد فقط بل تجاوزته إلى النهي عن الأفكار الشريرة. جاءت شريعة موسى بعبارة سلبية تعدّد ما نهى عنه الله. أما شريعة المسيح فأحاطت بالسلب والإيجاب. فكما نهت عن فعل الشر أمرت بفعل الخير. من أجل ذلك كان يقع تحت طائلة العقاب بموجب شريعة العقاب كل من يعمل الشر. وأما بموجب شريعة المسيح فيقع تحت طائلة موسى كل من لم يفعل الخير وإن كان بريئاً من فعل الشر. ومن أقوال المسيح في هذا المعنى مثل مشهور هو مثل السامري الصالح أوجب فيه المسيح دينونة كاهن ولاوي لم يسعفا رجلاً جريحاً بل تركاه ومضيا - لوقا 10 :30-37 - ومنها مثل العبد الذي أخذ من سيده وزنة ولم يتاجر بها. بل صرّها في منديل وحفظها عنده. فأوجب عليه العقوبة مع أنه لم يختلس من المال درهماً واحداً. لكنه لم يربح فوقه. وذلك كناية عن عدم فعل الخير - لوقا 19 :20-24 .
نهت شريعة موسى بني إسرائيل عن أن يخالطوا الأمم حذراً من أن ينقادوا الى عبادتهم الوثنية وفعالهم المنكرة. وأما شريعة المسيح فلا تقف معنا عند حد السلامة من دين الوثنيين وأفعالهم. بل توجب علينا أن نبشرهم بالمسيح ونعلمهم معرفة الإله الحقيقي حتى نربحهم ونضمهم إلى صفوفنا. إلا أنه من بعض الوجوه يوجد فرق ضروري بين العهد القديم والجديد. الأول علَّم الناس أنهم خطاة وذوو طبيعة خاطئة أمام نظر الله القدوس. وأمرهم أن يلقوا رجاءهم على مخلّص آتٍ يولد من عذراء في بيت لحم ويقدم نفسه كفارة عن خطاياهم. وأما العهد الثاني فهو يبشر بأن المخلّص الموعود به قد جاء وقدَّم نفسه كفارة. ليس عن خطايا اليهود فقط بل عن خطايا العالم كله. ولم يبق عليهم إلا أن يؤمنوا به فيخلصون. ولكن هذا الفرق وحده هو تتميم في الزمان الثاني لما سبق به الوعد في الزمن الأول.
ربما يظهر للبعض أنه لمناسبة تقدم العالم في المدنية والحضارة فالدين الذي كان ملائماللناس في زمن موسى لم يلائمهم في زمن المسيح إذ أنه عتق وشاخ. ومثل ذلك الدين الذي وضعه المسيح إذ مرَّ عليه ستماية سنة عتق وشاخ أيضاً ولم يعد يلائم العالم في عصر محمد. فولى الأدبار أيضاً وقام مقامه الإسلام.
فرداً على ذلك نقول :
1 - بما أن الطقوس والرسوم الدينية هي رموز تشبيهية. فيجوز أن تهرم وتشيخ متى أتى المرموز إليه. وعوضاً عما كانت مفيدة في زمن الرمز به الا تكون مفيدة في العصور الأخرى. بل ربما أضرّت. أما المبادئ الجوهرية للدين الحق فلا تقبل التغيير. ولا يؤثر عليها مرور القرون واختلاف العصور كالشريعة الأخلاقية. فإنها إن كانت حقاً وواجبة في زمن تبقى كذلك في كل الأزمان. فمبادئ شريعة موسى الأخلاقية كانت حقاً في زمن آدم وإبراهيم والمسيح. وهي حقٌّ في هذا الزمان. وتبقى حقاً إلى يوم القيامة بل إلى م الا نهاية له. لأن جوهر الدين الحق لا يقبل التغيير ولا يعجز عن التأثير.
2 - نقول إن كان العالم قد تقدم في المدنية والعلم يقتضي تقدمه في الدين أيضاً. ولو سلمنا جدلاً أن عصر محمد وجزيرة العرب مسقط رأسه كانا أكثر حضارة وأرقى مدنيّة من بلاد فلسطين ومن الأمة اليهودية في عصر المسيح. واقتضى تنزيل دين الإسلام راقياً كرقي الديانة المسيحية على الأقل من حيث المبادئ الأخلاقية وروحانية العبادة والعتق من نير الطقوس اليهودية المتراكمة. فهل الإسلام راقٍ هذا الرقي من هذه الحيثيات. أم يرجع القهقرى إلى زمن موسى .إننا نترك الحكم لأهل الإنصاف والخبرة بالتوراة والإنجيل والقرآن.
3 - نقول إن الطبيعة البشرية واحدة في كل العصور من احتياجاتها وميولها والفساد المتسلط عليها. لذلك يحتاج البشر أجمعون إلى روح الله القدوس ليطهر قلوبهم من زمن مضى أو حاضر أو مستقبل. إلا أن ابن آدم يميل للخطية ويحتاج إلى يد تنتشله وتقرّبه إلى الله على الرغم من ميوله الطبيعية. وهذه اليد الناشلة لا يمكن الوصول إليها إلا إن كان يتفضل الله علينا ويحبنا أولاً ويكون هو البادئ بالصلح. نعم هذا هو الإنجيل بعينه. لأنه إعلان محبة الله للعالم الأثيم. قال الرسول يوحنا أحد الحواريين الاثني عشر نحبّه لأنه أحبنا أولاً - 1 يوحنا 4 :19 - فهذه الطريقة هي أرقى وأنجع وأفضل طريقة معقولة لاجتذاب الإنسان إلى الله ومصالحته مع خالقه ولا يقدر العقل البشري أن يتصوّر وسيلة دينية تحمل الإنسان على إنكار نفسه. والارتفاع في درجات الصلاح والتعبد لله مثل الإيمان بأن الله أحبنا أولاً وبذل ابنه من أجلنا.
ونزيد قائلين إن دعواهم بأن التوراة منسوخة دعوى منقوضة بأقوال الأنبياء والرسل الصريحة. ومن ذلك قول إشعياء النبي مشيراً إلى أسفار العهد القديم طبعاً يَبِسَ الْعُشْبُ. ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الْأَبَدِ - إشعياء 40 :8 . ويؤيد المسيح هذه الحقيقة داحضاً وقوع النسخ على أسفار العهد القديم. ومثبتاً بقاء كلماتها إلى الأبد. أو على الأقل مدة وجود العالم ومن ذلك قوله : اَلسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ تَزُولَانِ وَلكنَّ كَلَامِي لَا يَزُولُ - متى 24 :35 ومرقس 13 :31 ولوقا 21 :33 .
ولعل معترضاً يقول إن المسيح قصد بقاء كلامه في تلك المواضع إلى زمن حصار أورشليم بواسطة جيش تيطس أي سنة 70 للميلاد. فنجيب أن من يطالع هذه الأصحاحات الثلاثة ويلاحظ سياق الكلام فيها. يحكم لأول وهلة أن إشارة المسيح ليس إلى حصار أو خراب أورشليم. بل إلى منتهى العالم إلى يوم القيامة حين يأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات - متى 24 :30 و31 ومرقس 13 :26 و27 ولوقا 21 :27 و28 - لأنه لما أشار إلى الضيقات الهائلة التي ستحيق بالعالم في آخر الزمان وتغيُّر وجه الأرض كان من المناسب أن يطمئن المؤمنين به بأن كلامه يبقى ثابتاً - وكذلك القرآن يثبت أن لا تغيير لكلمات الله - انظر سورة الأنعام 6 :34 و115 وسورة يونس 10 :64 وسورة الكهف 18 :27 . لا يتغير ولا يزول حتى يتمسكوا به في أوقات الشدائد. ومما يدل على أن كلام المسيح باق إلى يوم القيامة قوله مَنْ رَذَلَنِي وَلَمْ يَقْبَلْ كَلَامِي فَلَهُ مَنْ يَدِينُهُ. اَلْكَلَامُ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ هُوَ يَدِينُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ - يوحنا 12 :48 . وهذا الدليل لا يجهله أحد. لأنه إن كنا سنُدان في اليوم الأخير بموجب إنجيل المسيح. فيقتضي أن يبقى الإنجيل بدون تبديل إلى يوم الدين. وقد أمرنا الإنجيل أمراً صريحاً أنه إن جاءنا أعظم عظيم. ولو ملاك من السماء. وبشَّرنا بخلاف ما ورد في الإنجيل وادّعى بأنه مرسل من الله يكون ملعوناً - غلاطية 1 :8 - ولهذه الأسباب ابتعد المسيحيون الحقيقيون عن ضلالات الأنبياء الكذبة الذين ظهروا بعد المسيح وادّعوا بأنهم هم المشار إليهم في الإنجيل بالفارقليط مثل ماني الفارسي وغيره. وكذلك لم يتوقعوا وحياً جديداً غير المتضمن في العهد الجديد.
ولا يبرح من بالك أن قصد المسيح من دوام كلامه وبقاء كل لفظة من ألفاظ العهد القديم والجديد على وضعها الأصلي شيئان مختلفان لأن قصد المسيح من دوام كلامه وكلام العهدين بقاء معانيهم الا ألفاظهما. فلا يجهل عالِم بأصول اللغة أن المعنى هو المراد لا الألفاظ التي هي آلة للتعبير. إذ قد توجد قراءات مختلفة لنسخ العهدين. كما توجد قراءات في القرآن وكل الكتب القديمة لكنه الا تغيّر المعنى. ولم تمس مبدأً من مبادئ الدين في العهدين.
وقد يقول قائل : يُؤخذ من كلام المسيح من حيث بقاء كلمة الله في العهد القديم والجديد بدون تبديل أنه لا يجوز تبديل الطقوس والرسوم الخارجية الواردة في التوراة. ولكنها تبدَّلت بالإنجيل. فنقول إننا أجبنا على هذا الاعتراض في ما تقدم بما فيه الكفاية. ولا بأس من تكرار الجواب بأن الطقوس والرسوم الخارجية الواردة في التوراة لم تبدّل بالحقيقة. بل تقدَّمت وتكمَّلت كما علّم المسيح نفسه - متى 5 :17 - ومن أمثلة ذلك أن المسيح أصلح كيفية الصيام مع أن أنبياء العهد القديم لم يأمروا به ولا نهوا عنه. بل غاية ما في الأمر أنه كان محترماً عند اليهود - متى 6 :16-18 . وقول بعضهم إن أمر المسيح الوارد في الإنجيل - متى 5 :17 - وتصريحه في متى 15 :24 منسوخان كلاهما بأمره الوارد في ختام هذه البشارة. فنجيب قائلين : إن الأوامر الوقتية يجب أن تكون وقتية. فمتى نُفِّذت تماماً انتهت. فلا يُقال إنها نُسخت. ولا أُبطلت. وإثبات ذلك ظاهر من معنى كلام السيد المسيح أنه لم يقصد حصر التلاميذ في بلاد فلسطين دائماً أبداً. لأنه له المجد هو نفسه لم يتجاوز حدود فلسطين إلا هذه المرة التي استدعته إلى القول المشار إليه. فلا يُعتبر عدم سفره نهياً صريحا للتلاميذ عن السفر دائماً. ولا أن رسالتهم مختصة في بني إسرائيل فقط.
ولنرجع الآن إلى الحقائق المذكورة في التوراة فنقول إنها أيضا لا تقبل النسخ. وإثبات ذلك سهل جداً. لأنه من البديهي لكل ذي فهم أن الحقيقة الواردة في الكتاب كواقعة حال يجب أن تكون صدقاً أو كذباً. أما كونها كذباً فلم يدَّعِ هذه الدعوى أحدُ من المسلمين. وأما كونها صدقاً فيستحيل نسخها كما هو مستحيل لأي حادث أن يُمحى من بطون التاريخ. ويُمحى أثره من صحيفة الوجود وفي هذا كفاية.
والآن وقد أتينا في هذا الفصل بمزيد الوضوح والجلاء بأن كل تعاليم العهد القديم والجديد الجوهرية لا تقبل التغيير ولا النسخ. لأنها تمثل للناس إرادة الله وصفاته وهي منزَّهة عن التغيير والتبديل في كل العصور والآباد. وعليه فطريق الخلاص واحدة في كل الأجيال. وسيُدان الناس في اليوم الآخِر بموجب تعليم المسيح الذي رأى إبراهيم يومه بعين الإيمان وفرح به. وبالإيمان باسمه يخلُص كل إنسان. حتى الأنبياء والمرسلين.
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
الفصل الثالث
أسفار العهدين القديم والجديد المتداولة اليوم
هي بعينها التي كانت بأيدي النصارى واليهود
وقد شهد لها القرآن
في هذا الفصل والذي يليه بحثان في غاية الأهمية :
1 هل أسفار العهدين المنتشرة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد ?
2 إن كانت هي بذاتها فهل اعتراها تحريف أو تبديل كثير أو قليل ?
وقبل البحث في هذا وذاك لنفرض أن الكتاب المقدس المتداول اليوم لم يكن هو بذاته الذي كان في عصر محمد. أو على الأقل اعتراه التحريف بحيث أصبح لا يوثق به. كما يزعم جهّال المسلمين. فإن كان الأمر هكذا فما اشقى بني آدم وما أنكد حظهم. لأن كلام الله الذي لا يقبل التغيير على حسب فهمنا. ونطقت به الأنبياء والرسل كما يصرح القرآن ويحتم على المسلمين أن يعترفوا به قد تلاشى من الوجود أو تشوه بالباطل. فسقطت قيمته! حتى القرآن طاش سهمه وخاب مسعاه. لأن الله أنزله مهيمناً على الكتاب المقدس ليحفظه سالماً من أيدي الأغراض ولم يحفظه. لأنه في سورة المائدة 5 :48 يقول وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّق المَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ الخ ويفسر البيضاوي قوله ومهيمناً عليه رقيباً على سائر الكتب ليحفظها من التغيير. ويشهد لها بالصحة والثبات. وقُرئ على صيغة المفعول أي هُومن عليه أو حوفظ من التحريف. والحافظ له هو الله أو الحفظ في كل عصر. شهيداً عليه أي على الكتب كلها . إن هذ اليهدم ركناً من أركان الثقة بالقرآن. وقد وكل الله إليه مأمورية فأهملها.
لكن هذه الدعوى باطلة والشكر لله. فإن كلمته التي في العهدين لم تتلاشَ ولا تحرَّفت. بل بقيت محفوظة بعنايته الضابطة لكل شيء كما يعترف القرآن.
ومن الغريب أننا نحن المسيحيين بواسطة تمسكنا بشهادة القرآن في حق الكتاب المقدس بالصحة والنزاهة ندافع عن القرآن نفسه من هجمات أغبياء المسلمين. الذين لو دروا أن الطعن في الكتاب المقدس طعن في قلب القرآن. لم يطعنوا. ومن الشواهد على ذلك قول الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق الذي طبعه سنة 1284 هجرية أن أحد علماء الهند أفتى قائلاً إن هذا المجموع المشتهر الآن بالعهد الجديد ليس بمسلم عندنا. وليس هذا هو الإنجيل الذي جاء ذكره في القرآن بل هو عندنا عبارة عن الكلام الذي أُنزل على عيسى - ص 144 و145 - وقد وقع رحمة الله في مثل هذا الخطأ الفاحش من شدة تعصبه. فقال ما معناه إن التوراة والإنجيل الأصليين فُقدا قبل رسالة محمد. والأسفار الموجودة اليوم لا مقام لها عندنا أكثر من كتب أقاصيص ملفقة من باطل وحق وإننا لا نعتبر أن الكتاب وُجد بحالة من الصحة والنقاوة حتى زمن الإسلام ثم دهمته مصيبة التحريف فأُتلف. بل نقول إنه فُقد كله قبل ذلك بزمن طويل.
ورداً على ذلك نقول إن رحمة الله لا يعني بالتوراة والإنجيل الأصليين ونفس الصورتين اللتين كتبهما موسى ورسل عيسى بأيديهم. لأنه إن كان يقصد ذلك يورط نفسه من جهة القرآن. لأن نسخته الأصلية ضاعت أيضاً. بل قصد الإنجيل والتوراة اللذين هما طبق الأصل. ودعواه بأنهما ضاعا باطلة. كما هو مسلَّم عند علماء الإسلام المحققين في كل العالم. وهذه من أفحش الغلطات التي سقط فيها رحمة الله. وإن مثله لا يُلتمس له عذر كما كان يُلتمس لأهل العصور المظلمة. أما وهو من أبناء هذا العصر الذي سطع فيه نور العلم والعرفان فيُؤاخذ بغلطته كل المؤاخذة. يبذل هذا الشيخ مجهوده ليوهم بسطاء المسلمين أن التوراة الأصلية فُقدت عندما سبى بختنصر الملك أورشليم وهدم هيكل سليمان سنة 587 قبل المسيح. ويقيم الدليل على ذلك من سفر مزمور يدعوه بعضهم سيدارس الثاني ويدعوه بعضهم الرابع. ويحاول أن يقنع المسلمين بأن سيدراس هذا إنما هو عزرا المسمى في القرآن عُزير. وأنه قد ألف كتاباً وادعى أنه هو التوراة الحقيقية الأصلية التي نزلت على موسى النبي. إلا أننا بمراجعة ذلك السفر الذي يشير إليه لا نجد ما يدل على صحة دعواه مطلقاً. بل ما يدحضها. فورد في أصحاح 14 :21 و22 بأن عزرا استدعى الكتبة إلى كتابة كل ما عُمل في العالم من البدء. كما هو مكتوب في أسفار الشريعة. فإذا صحَّ هذا السند فإنه يدل على أن عزرا كان من حَفَظة أسفار الوحي. فأملاها على الكتبة فكتبوها ودّونوها. فلا يُقال عن عزرا والحالة هذه إنه ألف كتاباً من عند نفسه وادعى بأنه التوراة. وجاء في تفسير البيضاوي لسورة التوبة 9 :30 ما ينقض زعم رحمة الله ويؤيد بياننا. قال ما معناه عندما سبى بختنصر اليهود لم يبق أحد من حفظة الوحي. فبعث الله عزيراً من الأموات وقد مر عليه مئة سنة ميتاً. فأملى التوراة وجاءت طبق الأصل حتى تعجب منه اليهود .
إن كانت هذه الرواية صحيحة فلا غرو أن يتعجب منها اليهود. إنما العجب كل العجب أن يوجد بين العقلاء من يصدق خرافة كهذه. فإنه لا سفر سيدراس الثاني ولا الرابع ذكر هذه السخريات. ومع ذلك يؤخذ من هذه المزاعم التي رواها البيضاوي في تفسيره ورحمة الله في إظهار الحق أن عزرا كان حافظ الأسفار الوحي لا مزوراً. ثم نقول مرة ثانية. إن كانت الرواية الواردة في سفر سيدراس الثاني صحيحة فلا يؤخذ منها أن التوراة انعدمت من الوجود بسبب حرق كل نسخها. كما أنه لا ينعدم القرآن إذا أُحرق. لأنه كان يوجد حفظة للتوراة كما يوجد حفظة للقرآن الذين في إمكانهم أن يدونوه في الكتب. ويحسن أن نقول عن سفر سيدراس إنه لا يوجد أحد من علماء اليهود أو المسيحيين اعتمده ونسبه إلى عزرا. ويظهر من مطالعة الجزء الأول منه أنه كُتب ما بين 81 و86 ميلادية. ومن المعلوم أن عزرا كان قبل الميلاد بنحو خمسائة سنة - انظر سفر سيدراس الثاني أصحاح 2 :47 و7 :28 و29 إلخ - وعليه تكون نسبة هذا السفر إلى عزرا منتحلة. وبالنتيجة يكون السفر مزوراً وأن اليهود الأولين لم يعدوه بين أسفارهم القانونية. إلا أنه في القرن الثالث للميلاد قبله بعضهم من الذين يجهلون اللغة العبرانية المكتوب بها. وإلا لما كانوا يقبلونه.
وإذ قد انتهينا من كلمتنا عن هذا السفر. وأقمنا الدليل بأن التوراة والأسفار الأخرى المقدسة التي أوحي بها إلى الأمة اليهودية لم تتلاش قط من الوجود. فنقول إن ثبت وجودها في حياة عزرا - أي بعد خراب الهيكل بأكثر من مائة عام - ثبت وجودها في زمن بختنصر. أما إنها كانت موجودة في زمن عزرا فالدليل عليه من نفس سفر عزرا المقبول لدى اليهود والنصارى أجمعين. فلقد ورد فيه قوله عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل - توراة سفر عزرا 7 :6 - . قارن بين هذا وبين ما ورد في سفر نحميا ص 8 - . ثم جاء أيضاً في سفر عزرا أن شريعة الرب - أي التوراة - كانت في يده وقت صعوده من بابل إلى أورشليم. وعلى ذلك قول الملك أرتحششت اله مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ وَمُشِيرِيهِ السَّبْعَةِ لِأَجْلِ السُّؤَالِ عَنْ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ حَسَبَ شَرِيعَةِ إِل هِكَ التي بِيَدِكَ - عزرا 7 :14 - . ومن هنا يظهر بمزيد الوضوح أن التوراة لم تتلاش في زمن بختنصر.
وعندنا دليل آخر ورد في كتاب عبري يُدعى برقي أبهوث كُتب في القرن الثاني للميلاد ما معناه نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء. واستودعها موسى إلى يشوع. وهذا سلمها إلى شيوخ إسرائيل. وهؤلاء سلموها إلى الأنبياء. وسلمها الأنبياء إلى السنهدريم مجمع اليهود الأعظم . ويُروى أن هذا المجمع كان مؤلفاً من علماء اليهود وبدأ بتأسيسه عزرا. وكان الغرض منه المحافظة على التوراة وتعليمها للشعب. وورد في التلمود - كتاب تقليد اليهود - أنه بعد السبي البابلي الذي نحن في صدده أعاد المجمع العظيم التوراة إلى مجدها وجلالها القديم. وأشار إلى ذلك كتاب برقي أبهوث بما معناه أن ذلك المجمع وضع ثلاثة وصايا كشعائر مقدسة الأولى - احترس في القضاء - الثانية علِّم كثيرين - الثالثة كن حصناً منيعاللتوراة. وهذه الوصية الأخيرة أوجبت على اليهود أن يبذلوا قصارى جهدهم في صيانة التوراة سالمة من كل ما يعرض لها. وقد قاموا بهذا المهمة خير قيام. وما من أمة بالغت في العناية بكتابها المقدس كما بالغت الأمة اليهودية بتوراتها. فقد أحصوا عدد كلماتها وحروفها. وأذكر هنا قولاً مأثوراً قاله أحد أكابر هذا المجمع يدل على مبلغ عنايتهم بالتوراة. وإلى أي حد رفعوا مقامها. ورد في برقي أبهوث قوله إن سمعان العادل - أحد خلفاء المجمع - كان يقول : العالم قائم على ثلاثة أعمدة التوراة والعبادة والعمل الصالح . بمثل هذا الاهتمام والتدقيق تداولت التوراة بين اليهود من السلف إلى الخلف جيلاً بعد جيل في لغتها الأصلية وهي العبرية والآرامية بكل اعتناء وتدقيق. ومن الأدلة المعتبرة على ما نحن بصدده تعدد قراءات التوراة. أي وجود اختلافات لفظية مع وحدة المعنى. أليس هذا برهاناً على أنه لم يكتبها شخص واحد. ولا كُتبت في عصر واحد. ثم أنه يوجد فيها ما يشبه التناقض في أخبار بعض الوقائع والمسائل التي ليس لها مساس في الجوهر. وهو بالحقيقة ليس بتناقض. فوجود شيء من هذا القبيل في أسفار التوراة مع سكوت اليهود عنه وعدم تجاسرهم على تسويته. لدليل قوي على تمسكهم بالمتون الأصلية واستحفاظهم عليها. مهما يكن من أمرها. وتظهر قوة هذا الدليل بأكثر وضوح من المثال الآتي نقلاً عن القرآن. ورد في سورة آل عمران 3 :55 قوله إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وورد في سورة النساء 4 :159 قوله وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قد ارتاب بعضهم في كون الضمير الأخير عائد إلى المسيح. ولكن لا يمكن أن يرتاب في تصريح القرآن بموت المسيح الوارد في سورة مريم 19 :33 وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً فهذا كله يظهر أنه منقوض بما ورد في سورة النساء 4 :157 وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ لأنه في المواضع الأولى يثبت موته وفي الموضع الأخير ينفيه. فوجود التناقض الظاهري في متن القرآن دليل معتبر على أن المسلمين لم يمسوه بسوء وإلا لكانوا من باب أولى أزالوا شبه التناقض هذا وخصوصاً في آية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إذ قُرئت قبل موتهم وهذه القراءة يزول معها الالتباس. فما كان أيسر عليهم أن يثبتوا القراءة الثانية محل الأولى لكنهم لم يفعلوا حرصاً على الأصل. هكذا يدل وجود شبه التناقض الواقع في أسفار التوراة على أمانة أهلها.
أسفار العهدين القديم والجديد المتداولة اليوم
هي بعينها التي كانت بأيدي النصارى واليهود
وقد شهد لها القرآن
في هذا الفصل والذي يليه بحثان في غاية الأهمية :
1 هل أسفار العهدين المنتشرة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد ?
2 إن كانت هي بذاتها فهل اعتراها تحريف أو تبديل كثير أو قليل ?
وقبل البحث في هذا وذاك لنفرض أن الكتاب المقدس المتداول اليوم لم يكن هو بذاته الذي كان في عصر محمد. أو على الأقل اعتراه التحريف بحيث أصبح لا يوثق به. كما يزعم جهّال المسلمين. فإن كان الأمر هكذا فما اشقى بني آدم وما أنكد حظهم. لأن كلام الله الذي لا يقبل التغيير على حسب فهمنا. ونطقت به الأنبياء والرسل كما يصرح القرآن ويحتم على المسلمين أن يعترفوا به قد تلاشى من الوجود أو تشوه بالباطل. فسقطت قيمته! حتى القرآن طاش سهمه وخاب مسعاه. لأن الله أنزله مهيمناً على الكتاب المقدس ليحفظه سالماً من أيدي الأغراض ولم يحفظه. لأنه في سورة المائدة 5 :48 يقول وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّق المَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ الخ ويفسر البيضاوي قوله ومهيمناً عليه رقيباً على سائر الكتب ليحفظها من التغيير. ويشهد لها بالصحة والثبات. وقُرئ على صيغة المفعول أي هُومن عليه أو حوفظ من التحريف. والحافظ له هو الله أو الحفظ في كل عصر. شهيداً عليه أي على الكتب كلها . إن هذ اليهدم ركناً من أركان الثقة بالقرآن. وقد وكل الله إليه مأمورية فأهملها.
لكن هذه الدعوى باطلة والشكر لله. فإن كلمته التي في العهدين لم تتلاشَ ولا تحرَّفت. بل بقيت محفوظة بعنايته الضابطة لكل شيء كما يعترف القرآن.
ومن الغريب أننا نحن المسيحيين بواسطة تمسكنا بشهادة القرآن في حق الكتاب المقدس بالصحة والنزاهة ندافع عن القرآن نفسه من هجمات أغبياء المسلمين. الذين لو دروا أن الطعن في الكتاب المقدس طعن في قلب القرآن. لم يطعنوا. ومن الشواهد على ذلك قول الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق الذي طبعه سنة 1284 هجرية أن أحد علماء الهند أفتى قائلاً إن هذا المجموع المشتهر الآن بالعهد الجديد ليس بمسلم عندنا. وليس هذا هو الإنجيل الذي جاء ذكره في القرآن بل هو عندنا عبارة عن الكلام الذي أُنزل على عيسى - ص 144 و145 - وقد وقع رحمة الله في مثل هذا الخطأ الفاحش من شدة تعصبه. فقال ما معناه إن التوراة والإنجيل الأصليين فُقدا قبل رسالة محمد. والأسفار الموجودة اليوم لا مقام لها عندنا أكثر من كتب أقاصيص ملفقة من باطل وحق وإننا لا نعتبر أن الكتاب وُجد بحالة من الصحة والنقاوة حتى زمن الإسلام ثم دهمته مصيبة التحريف فأُتلف. بل نقول إنه فُقد كله قبل ذلك بزمن طويل.
ورداً على ذلك نقول إن رحمة الله لا يعني بالتوراة والإنجيل الأصليين ونفس الصورتين اللتين كتبهما موسى ورسل عيسى بأيديهم. لأنه إن كان يقصد ذلك يورط نفسه من جهة القرآن. لأن نسخته الأصلية ضاعت أيضاً. بل قصد الإنجيل والتوراة اللذين هما طبق الأصل. ودعواه بأنهما ضاعا باطلة. كما هو مسلَّم عند علماء الإسلام المحققين في كل العالم. وهذه من أفحش الغلطات التي سقط فيها رحمة الله. وإن مثله لا يُلتمس له عذر كما كان يُلتمس لأهل العصور المظلمة. أما وهو من أبناء هذا العصر الذي سطع فيه نور العلم والعرفان فيُؤاخذ بغلطته كل المؤاخذة. يبذل هذا الشيخ مجهوده ليوهم بسطاء المسلمين أن التوراة الأصلية فُقدت عندما سبى بختنصر الملك أورشليم وهدم هيكل سليمان سنة 587 قبل المسيح. ويقيم الدليل على ذلك من سفر مزمور يدعوه بعضهم سيدارس الثاني ويدعوه بعضهم الرابع. ويحاول أن يقنع المسلمين بأن سيدراس هذا إنما هو عزرا المسمى في القرآن عُزير. وأنه قد ألف كتاباً وادعى أنه هو التوراة الحقيقية الأصلية التي نزلت على موسى النبي. إلا أننا بمراجعة ذلك السفر الذي يشير إليه لا نجد ما يدل على صحة دعواه مطلقاً. بل ما يدحضها. فورد في أصحاح 14 :21 و22 بأن عزرا استدعى الكتبة إلى كتابة كل ما عُمل في العالم من البدء. كما هو مكتوب في أسفار الشريعة. فإذا صحَّ هذا السند فإنه يدل على أن عزرا كان من حَفَظة أسفار الوحي. فأملاها على الكتبة فكتبوها ودّونوها. فلا يُقال عن عزرا والحالة هذه إنه ألف كتاباً من عند نفسه وادعى بأنه التوراة. وجاء في تفسير البيضاوي لسورة التوبة 9 :30 ما ينقض زعم رحمة الله ويؤيد بياننا. قال ما معناه عندما سبى بختنصر اليهود لم يبق أحد من حفظة الوحي. فبعث الله عزيراً من الأموات وقد مر عليه مئة سنة ميتاً. فأملى التوراة وجاءت طبق الأصل حتى تعجب منه اليهود .
إن كانت هذه الرواية صحيحة فلا غرو أن يتعجب منها اليهود. إنما العجب كل العجب أن يوجد بين العقلاء من يصدق خرافة كهذه. فإنه لا سفر سيدراس الثاني ولا الرابع ذكر هذه السخريات. ومع ذلك يؤخذ من هذه المزاعم التي رواها البيضاوي في تفسيره ورحمة الله في إظهار الحق أن عزرا كان حافظ الأسفار الوحي لا مزوراً. ثم نقول مرة ثانية. إن كانت الرواية الواردة في سفر سيدراس الثاني صحيحة فلا يؤخذ منها أن التوراة انعدمت من الوجود بسبب حرق كل نسخها. كما أنه لا ينعدم القرآن إذا أُحرق. لأنه كان يوجد حفظة للتوراة كما يوجد حفظة للقرآن الذين في إمكانهم أن يدونوه في الكتب. ويحسن أن نقول عن سفر سيدراس إنه لا يوجد أحد من علماء اليهود أو المسيحيين اعتمده ونسبه إلى عزرا. ويظهر من مطالعة الجزء الأول منه أنه كُتب ما بين 81 و86 ميلادية. ومن المعلوم أن عزرا كان قبل الميلاد بنحو خمسائة سنة - انظر سفر سيدراس الثاني أصحاح 2 :47 و7 :28 و29 إلخ - وعليه تكون نسبة هذا السفر إلى عزرا منتحلة. وبالنتيجة يكون السفر مزوراً وأن اليهود الأولين لم يعدوه بين أسفارهم القانونية. إلا أنه في القرن الثالث للميلاد قبله بعضهم من الذين يجهلون اللغة العبرانية المكتوب بها. وإلا لما كانوا يقبلونه.
وإذ قد انتهينا من كلمتنا عن هذا السفر. وأقمنا الدليل بأن التوراة والأسفار الأخرى المقدسة التي أوحي بها إلى الأمة اليهودية لم تتلاش قط من الوجود. فنقول إن ثبت وجودها في حياة عزرا - أي بعد خراب الهيكل بأكثر من مائة عام - ثبت وجودها في زمن بختنصر. أما إنها كانت موجودة في زمن عزرا فالدليل عليه من نفس سفر عزرا المقبول لدى اليهود والنصارى أجمعين. فلقد ورد فيه قوله عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل - توراة سفر عزرا 7 :6 - . قارن بين هذا وبين ما ورد في سفر نحميا ص 8 - . ثم جاء أيضاً في سفر عزرا أن شريعة الرب - أي التوراة - كانت في يده وقت صعوده من بابل إلى أورشليم. وعلى ذلك قول الملك أرتحششت اله مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ مُرْسَلٌ مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ وَمُشِيرِيهِ السَّبْعَةِ لِأَجْلِ السُّؤَالِ عَنْ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ حَسَبَ شَرِيعَةِ إِل هِكَ التي بِيَدِكَ - عزرا 7 :14 - . ومن هنا يظهر بمزيد الوضوح أن التوراة لم تتلاش في زمن بختنصر.
وعندنا دليل آخر ورد في كتاب عبري يُدعى برقي أبهوث كُتب في القرن الثاني للميلاد ما معناه نزلت التوراة على موسى في جبل سيناء. واستودعها موسى إلى يشوع. وهذا سلمها إلى شيوخ إسرائيل. وهؤلاء سلموها إلى الأنبياء. وسلمها الأنبياء إلى السنهدريم مجمع اليهود الأعظم . ويُروى أن هذا المجمع كان مؤلفاً من علماء اليهود وبدأ بتأسيسه عزرا. وكان الغرض منه المحافظة على التوراة وتعليمها للشعب. وورد في التلمود - كتاب تقليد اليهود - أنه بعد السبي البابلي الذي نحن في صدده أعاد المجمع العظيم التوراة إلى مجدها وجلالها القديم. وأشار إلى ذلك كتاب برقي أبهوث بما معناه أن ذلك المجمع وضع ثلاثة وصايا كشعائر مقدسة الأولى - احترس في القضاء - الثانية علِّم كثيرين - الثالثة كن حصناً منيعاللتوراة. وهذه الوصية الأخيرة أوجبت على اليهود أن يبذلوا قصارى جهدهم في صيانة التوراة سالمة من كل ما يعرض لها. وقد قاموا بهذا المهمة خير قيام. وما من أمة بالغت في العناية بكتابها المقدس كما بالغت الأمة اليهودية بتوراتها. فقد أحصوا عدد كلماتها وحروفها. وأذكر هنا قولاً مأثوراً قاله أحد أكابر هذا المجمع يدل على مبلغ عنايتهم بالتوراة. وإلى أي حد رفعوا مقامها. ورد في برقي أبهوث قوله إن سمعان العادل - أحد خلفاء المجمع - كان يقول : العالم قائم على ثلاثة أعمدة التوراة والعبادة والعمل الصالح . بمثل هذا الاهتمام والتدقيق تداولت التوراة بين اليهود من السلف إلى الخلف جيلاً بعد جيل في لغتها الأصلية وهي العبرية والآرامية بكل اعتناء وتدقيق. ومن الأدلة المعتبرة على ما نحن بصدده تعدد قراءات التوراة. أي وجود اختلافات لفظية مع وحدة المعنى. أليس هذا برهاناً على أنه لم يكتبها شخص واحد. ولا كُتبت في عصر واحد. ثم أنه يوجد فيها ما يشبه التناقض في أخبار بعض الوقائع والمسائل التي ليس لها مساس في الجوهر. وهو بالحقيقة ليس بتناقض. فوجود شيء من هذا القبيل في أسفار التوراة مع سكوت اليهود عنه وعدم تجاسرهم على تسويته. لدليل قوي على تمسكهم بالمتون الأصلية واستحفاظهم عليها. مهما يكن من أمرها. وتظهر قوة هذا الدليل بأكثر وضوح من المثال الآتي نقلاً عن القرآن. ورد في سورة آل عمران 3 :55 قوله إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وورد في سورة النساء 4 :159 قوله وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قد ارتاب بعضهم في كون الضمير الأخير عائد إلى المسيح. ولكن لا يمكن أن يرتاب في تصريح القرآن بموت المسيح الوارد في سورة مريم 19 :33 وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً فهذا كله يظهر أنه منقوض بما ورد في سورة النساء 4 :157 وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ لأنه في المواضع الأولى يثبت موته وفي الموضع الأخير ينفيه. فوجود التناقض الظاهري في متن القرآن دليل معتبر على أن المسلمين لم يمسوه بسوء وإلا لكانوا من باب أولى أزالوا شبه التناقض هذا وخصوصاً في آية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ إِلَّا ليُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إذ قُرئت قبل موتهم وهذه القراءة يزول معها الالتباس. فما كان أيسر عليهم أن يثبتوا القراءة الثانية محل الأولى لكنهم لم يفعلوا حرصاً على الأصل. هكذا يدل وجود شبه التناقض الواقع في أسفار التوراة على أمانة أهلها.
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
قد كتب بعض المؤلفين المسلمين جدولاً طويلاً من المناقضات الواردة في الكتاب المقدس وزعموا أنها مناقضات حقيقية. وهي تناقضات ظاهرية فقط كمثل التي نقلناها هنا عن القرآن. وقد وفق بين كثير منها العلماء المحققون. والتي لم يهتدوا إلى التوفيق بينها فصعوبتها قائمة على عدم معرفتهم كل ظروفها. ووجود هذه الاختلافات في أسفار التوراة دليل على عظمة اعتناء اليهود بالمحافظة على الأصل لأنهم لم يتخذوا وسيلة لإزالة هذا الخلاف ويكفوا نفوسهم مؤونة احتجاجات المعارضين الذين لا يفتأون ينقبون في الكتاب. لا توصل المعرفة الله. بل ليظفروا باحتجاج جديد. ويُظهروا براعتهم للناس.ولنتأمل الآن باختصار فيما إذا كانت أسفار العهد القديم أولاً وأسفار العهد الجديد ثانياً. المتداولة اليوم. هي بذاتها التي كانت في زمن محمد. وإليها أشار القرآن فنقول :
إنه يوجد لدينا جملة جداول محصاة فيها أسفار العهد القديم يرجع تاريخها إلى ما قبل محمد. وهي موافقة لتوراة العصر الحاضر تمام الموافقة. قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي في تاريخه الذي كتبه سنة 90 ميلادية لا يوجد بيننا معشر اليهود عشرات الألوف من الكتب المتناقضة. بل يوجد اثنان وعشرون سفراً نؤمن أنها موحى بها من الله محتوية على تاريخ كل العصور. منها خمسة أسفار - سفر التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية - لموسى. وتشتمل على شريعة الله وتاريخ الجنس البشري من ابتداء العالم إلى موته. أي نحو ثلاثة آلاف سنة تقريباً. ومن ذلك الوقت إلى حكم الملك أرتزركسيس الذي خلف زركسيس مدون في ثلاثة عشر سفراً - سفر يشوع والقضاة مع راعوث وصموئيل والملوك وأخبار الأيام وعزرا مع نحميا. وأستير وأيوب والاثنا عشر سفراللأنبياء الصغار وإشعياء وإرميا مع مراثيه وحزقيال ودانيال - . والأربعة الأسفار الباقية - المزامير والأمثال. والجامعة ونشيد الأنشاد - لتسبيح الله وتهذيب الأخلاق . وقدَّم لنا مجمع جامنيه الذي عُقد سنة 90 ميلادية قائمة هذه الأسفار بعينها. وقرر مجمع لادوكية أنها اثنان وعشرون سفراً. ثم في القرون المتأخرة جزأوا بعض هذه الأسفار لسهولة المراجعة.
ويمكننا أن نقدّر ونعين تاريخ التجزئة بالضبط. مثلاً في نسخة بطرسبرج التي كُتبت باللغة العبرية سنة 916 م لا تزال فيها الأسفار الصغار للأنبياء الاثني عشر - هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجي وزكريا وملاخي - متضمنة في كتاب كل سفر كان يعتبر أصحاحاً. محصية فيه أعداد الآيات. أما تقسيم كل من سفر صموئيل والملوك والأخبار إلى جزئين وفصل عزرا عن نحميا فقد تم لأول مرة في طبعة العهد القديم العبرية في البندقية سنة 1516 و1517 ميلادية. يقول يوسيفوس المؤرخ إن الكتب الأخرى التي لا يساوون بينها وبين الاثنين والعشرين سفراً القانونية في الوثوق بأقوالها وقد ترجموا الكل إلى اليونانية. ومع أن هذه الأسفار الغير القانونية كُتبت وتُرجمت من قبل المسيح بكل اعتناء وتدقيق. لم ينزلوها منزلة الأسفار القانونية ولا عدّوها معها. وتمت هذه الترجمة بين سنة 247 و385 قبل المسيح في مصر بناء على طلب بطليموس الثاني الملقب فيلادلفيوس . ويظن البعض أنها بين سنة 200 و250 قبل المسيح ويرجحون الرأي الثاني. وليس هذا ذا بال. وتُدعى هذه الترجمة بالسبعينية نسبة إلى عدد الذين ترجموها. فإنهم كانوا سبعين عالماً من علماء اليهود. وهي أقوم ترجمة للتوراة في الوجود.
ولنذكر بعد ذلك الترجمات الأخرى للعهد القديم لزيادة التأكيد بأن التوراة التي بأيدينا اليوم هي التي كانت في عصر محمد وقبله بقرون كثيرة. لأنه إن لم تكن موجودة حينئذ فمن أين أتت تلك الترجمات وعلى الخصوص الترجمة السبعينية .
ثم الترجمة اليونانية التي تُرجمت بواسطة أكويلا التي تممها سنة 130 ميلادية وترجمها مرة أخرى رجل سامري اسمه سيماش. وفرغ منها سنة 218 ميلادية. ثم ترجمها إيرونيموس عن اللغة العبرية إلى الطليانية وتُسمى الترجمة اللاتينية. وفرغ منها سنة 405 ميلادية. وتُسمى الفولجاتا .
يقول يعقوب من أودسا إن التوراة تُرجمت أيضاً في حياة المسيح بناء على طلب ملك أودسا ابجار. ويظنون أن أول من أشار إلى الترجمة السريانية هو مليتس من أهالي ساردس في القرن الثاني. وينسبها آخرون إلى القرن الثالث. والترجمة السريانية الفيلكسية أتمها بوليكاربوس نحو سنة 508 وهذبها وأصلحها توماس هرقل 616 م. وعليه كل الترجمات السريانية كانت موجودة من قبل عصر محمد. والترجمة الأخيرة من هذه اللغة بوشرت في نفس أيامه.
ولما احتمى أصحاب محمد ببلاد الحبشة قبل الهجرة رأوا أهل تلك البلاد يقرأون التوراة والإنجيل في لغتهم الحبشية. وبسبب قِدم تلك الترجمة كان من الصعب على الأحباش فهمها. والمظنون أنها تُرجمت في القرن الرابع للميلاد. وكذلك لما فتح عمرو مصر وجد الدين الغالب فيها النصرانية. ووجد الكتاب المقدس مترجماً إلى اللغة القبطية في اصطلاحات البلاد الثلاثة الصعيدي والبحيري والبشموري. وقد تُرجمت عن الترجمة السبعينية. ويظن بعضهم أنها تُرجمت في ما بين القرن الثالث والرابع. ويقول بعضهم بل قبل ذلك.
وتُرجمت بعض أجزاء التوراة عن اللغة السريانية إلى الآرامية سنة 411 م وعن الترجمة السبعينية سنة 436 م. وبعد ذلك بنحو قرن تمت الترجمة المشهورة بترجمة القديس جاورجيوس. وكانت مع قرب عهدها قبل الهجرة بسنين كثيرة.
وترجم التوراة أسقف غوثية إلى لغة أهل بلاده سنة 360 من وأكثر هذه التراجم تممها قوم مسيحيون ما عدا الترجمة السبعينية والأكويلية طبعاً. كثيراً ما ترجم اليهود بعض أسفار التوراة إلى الآرامية حيثما ابتدأ أكثرهم يهملون التكلم بالعبرية. ومن بين هذه التراجم ترجمة أنكلوس التي تمت ما بين سنة 150 و200 م. وترجم يوناثان ابن عزيل أسفار الأنبياء سنة 320. م وعدا عن كل هذه الترجمات كان يوجد كتاب الترجوم الأورشليمي. ترجمة أسفار العهد القديم وشروحها إلى اللغة الآرامية. وقد تم في القرن السادس أي قبل الهجرة. ومن المعلوم أنه كان في سالف الزمان بغض شديد بين السامريين واليهود. ومن أجل ذلك لم يعتمد السامريون من التوراة سوى أسفار موسى الخمسة واعتبروها كما هي موحى بها من الله. ولم نعلم بالتأكيد متى حصلوا على نسخة الأسفار الخمسة. فيظن البعض أنه كان في سنة 606 ق. م. أي حينما ابتدأت سنو السبي السبعون. ويظن البعض أن منسى حفيد ألياشيب الكاهن العظيم - وهو الذي قد تزوج بابنة سنبلط كما جاء ذلك في سفر نحميا أصحاح 13 :28 - أحضر هذه الأسفار إلى السامرة حينما نفاه نحميا من أورشليم وأسس هناك هيكلاً على جبل جرزيم نحو سنة 409 ق م.
ولا يزال بين أيدي المسيحيين بعض النسخ من توراة السامريين - أي أسفار موسى الخمسة - باللغة العبرانية الأصلية. لكن بحروف مختلفة عن التي يستعملها اليهود.
وبمراجعة هذه الأدلة والتراجم المتعددة لأسفار العهد القديم عند اليهود والنصارى نجزم ونحتم أن توراة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد. وشهد لها القرآن في آيات كثيرة. وأن القراءات المتعددة للتوراة لا تطعن في سلامتها ولا تشوش نقاوته الأنه الا تمس جوهر تعليمها. واختلاف القراءات مسألة لا بد منها لكل كتاب قديم عظيم كاختلافات قراءات القرآن.
ولنتكلم الآن في نسخ العهد الجديد المتداول اليوم في العالم المسيحي ونبحث هل هي الإنجيل الحقيقي الذي يشهد له القرآن. وهل هو الذي كان موجوداً في عصر محمد أم لا .
أما رجال العلم والتحقيق في كل العالم فلا يخالج قلوبهم أقل شك في صحة هذه الدعوى. لأن الأبحاث العصرية المتأخرة أثبتت أنه حتى في عصر المسيح كتب تلاميذه - الحواريون - مذكرات بأقواله وتعاليمه وأعماله. وكثير منها وارد في بشارة مرقس على نوع أخص. وفي بشارتي متى ولوقا أيضاً على نوع ما. إلا أن واقعة صلب المسيح وموته ودفنه وقيامته وصعوده لم يدون منها التلاميذ شيئاً إلا من بعد صعوده طبعاً. ثم أنهم لم يروا ضرورة تدفعهم إلى كتابة الإنجيل لقوم يعلمونه بمشاهدة العيان. إذ كانوا معاصرين ليسوع ورأوه وجه الوجه وكلموه شفاهياً وكانوا معه وحوله كل يوم يسمعون وعظه ويرون معجزاته - 1 كورنثوس 15 :6 وأعمال 1 :21 و22 - ولأن المسيح لم يأمرهم أن يكتبوا الإنجيل - الأخبار السارة - بل يكرزوا به. ليوضع الأساس على شهادة قوم أحياء معاصرين له شهادة شفاهية مشفوعة بدلائل الصدق والإخلاص. وأما كتابة الإنجيل - ومعناه الخبر السار أو البشارة السارة . فقد كتبها قبل الكل بولس الرسول ضمن رسالتين متواليتين بعث بهما إلى أهل تسالونيكي. ويرجع تاريخهما إلى ما بين سنة 22 و23 بعد صعود المسيح. ومثل هاتين الرسالتين بقية رسائل بولس في وحدة التعليم في كل المبادئ التي نتمسك بها إلى اليوم.
لكن لما مضى الجيل المعاصر للمسيح أو كاد. مسَّت الحاجة إلى تدوين الإنجيل في الأسفار لصون حقائقه من الطوارئ. وإفادة الأجيال الآتية. فألهم روح الله القدوس من اختار لتنفيذ هذه المهمة من رسل المسيح ورفقائهم القريبين منهم. فكتب أولاً القديس مرقس بشارته قبل خراب أورشليم سنة 70 للميلاد. وظن بعضهم أنه ما بين سنة 65 و66 في مدينة رومية. وكان مرقس رفيق الرسل المسيح وأحد تلامذته الأولي،ن وكان مشهوراً في الكنائس الأولى ومعروفاً عنه بأنه تلميذ بطرس. فكتب بشارته بناءً على معلوماته الشخصية ومعلومات بطرس. غير أن روح الله القدوس عصمه من الخطأ وذكّره بما عساه يكون نسيه. وألهمه ما يكتب في تلك الأخبار وما لا يكتب. وكتب متى رسول المسيح بشارته قبل سنة 70 للميلاد. وكتبه الوقا ما بين سنة 60 و70. وكتبها يوحنا ما بين سنة 90 و100 أي حينما بلغ من العمر سن الشيخوخة والحاصل أن بين أيدينا بشارت،ين لرسل المسيح. وهما بشارتا متى ويوحنا. وبشارتين لرفقائهما وهما بشارة مرقس - ومن المحتمل أن تكون من إملاء بطرس - وبشارة لوقا رفيق بولس الرسول. وهذا الأخير يقول في فاتحة كتابه إنه فحص واستعلم بالتدقيق عن كل ما كتب من شهود العين. ومم الا شك فيه أن الأصحاحين الأولين من بشارته كتبهما حسب شهادة العذراء مريم. وربما يقول معترض إن هذا كله لا يدل على أن هذه الكتب موحى بها من الله. فأجيب : نعم. ليست موحى بها كالوحي الذي يتصوره المسلمون ويروونه عن القرآن من أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ من قبل خلق العالم ونزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر. ثم أملاه جبريل على محمد مفرَّقاً حسب الوقائع والأحوال. إن وحياً كهذا يظهر لنا معاشر المسحيين أنه ليس بالجيد فضلاً عن أنه لم يقم دليل على أن القرآن موحى به مثل هذا الوحي - كما هو مثبوت في كتاب مصادر الإسلام - . ويقول وعلماء النقد والتفكير إن فرضنا أن كتاباً مقدساً كُتب في السماء ونزل إلى الأرض على هذه الكيفية فلا يمكننا أن نقيم الدليل على أن ذلك الكتاب كُتب في السماء ولا أن له صلة بها. وأما الوحي التوراتي والإنجيلي فهو أن الله إذا أراد أن يعلن لعباده أمراً من الأمور على يد أنبيائه لا يتخذهم كآلات صماء. بل يستخدم عقولهم وأذهانهم وذاكرتهم وذكاءهم وأرواحهم في ما يكتبونه. فيكون وحياً - يوحنا 16 :13 - . ولنشرح هنا بعض المسائل التي تشوش على أذهان إخواننا المسلمين في فهم حقيقة الإنجيل. يقول بعضهم إن الإنجيل الذي بين أيدي المسيحيين اليوم ليس هو الإنجيل الحقيقي الذي أُنزل على المسيح لأننا نرى عندهم أربعة أناجيل لم تُكتب إلا بعد صعود المسيح بمدة طويلة. فنقول إن كتابة الإنجيل بعد صعود المسيح بمدة طويلة لا يطعن في صحته كما لا يطعن في صحة. القرآن كونه جمع بعد حياة محمد - كما ورد في مشكاة المصابيح ص 193 والمؤلفات المعتبرة - . وأما عندنا أربعة أناجيل فهو ليس بحق. فإن عندنا إنجيلاً واحد الأن كلمة إنجيل وإن كانت استُعملت اسم البعض أسفار العهد الجديد فمعناها خبر سار أو بشارة مفرحة. لأنها معدولة عن كلمة يونانية مجانسة لها لفظاً وتفيد هذا المعنى بالضبط. لكن إخواننا المسلمين قلما يفطنون لهذا المعنى.
ولما كانت خلاصة أسفار العهد الجديد وزبدتها إعلان محبة الله للبشر. بحيث أنه أرسل لهم يسوع المسيح ليخلّصهم من خطاياهم. وهذا خبر سار جداً. فدُعي به العهد الجديد أو بالعبارة اليونانية المعربة إنجيل . وبهذا لا تكون أناجيل كثيرة. بل إنجيل واحد كرز به متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبولس وبطرس الخ. فالكارزون هم المتعددون. وأما الإنجيل فهو واحد غير متعدد. وبمراجعة الأصل اليوناني نجد البشائر الاربع التي في صدر أسفار العهد الجديد مسماة بكيفية تطابق الشرح الذي قدمناه. فبشارة متى مسماة إنجيل المسيح كما كتبه متى والبشارة الثانية مسماة إنجيل المسيح كما كتبه مرقس وهكذا. وإنما حباً بالاختصار اتفقوا على تسميتها بحسب الأسماء الحاضرة. وبعد البشائر الأربع سفر الأعمال - أي أعمال الرسل - وخلاصته أن الرسل كرزوا بالإنجيل في أقاليم كثيرة من العالم بين اليهود والأمم. وبدأوا بالكرازة بعد صعود المسيح بأيام قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع. والكارز الأول بالإنجيل هو نفس المسيح - مرقس 1 :15 و13 :10 ولوقا 20 :1 - وبهذا الاعتبار يكون الإنجيل نزل على المسيح. وقد شهد عن نفسه بأنه تلقى رسالته أي الإنجيل عن الله. وعلى ذلك قوله وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ. فَكَمَا قَالَ لِي الْآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ - يوحنا 12 :50 وقارن يوحنا 8 :28 و12 :49 -
وأما بقية أسفار العهد الجديد فلم تُقبل ضمن دائرة الوحي إلا بعد الاستفسار والتحري الدقيق والأسانيد الكافية. خشية أن ينطوي معها سهواً مصنفات أخرى. واستغرقت هذه المهمة زمناً طويلاً مراعاة للظروف الصعبة التي أحاطت بتلك الأسفار. مثل أن البعض منها كان رسائل خصوصية لأفراد معينين. كرسالة بولس الرسول الأولى والثانية إلى تيموثاوس وإلى تيطس وفليمون. ورسالة يوحنا الثانية والثالثة. والبعض الآخر بُعث أولاً كرسائل إلى كنائس معينة. إلا أننا علمنا من مؤلفات المسيحيين الأولين أن البشائر الأربع عُرفت وصار اعتمادها أنها وحي من الله ما بين سنة 70 إلى سنة 130 م. وقد تم من بعض الوجوه إحصاء أسفار العهد الجديد في سنة 170 م وسُمي هذا الإحصاء بالقانون الموراتوري. وقد اشتمل على كل أسفار العهد الجديد المتداولة اليوم ما عدا رسالة يعقوب الرسول. والرسالة الثانية لبطرس الرسول والرسالة إلى العبرانيين. وبعد التحري أبطلوا هذا القانون وعملوا إحصاءً جديداً تحروا فيه الضبط بأكثر تدقيق. يتضمن هذه الرسائل أيضاً مع الإشارة بأن الرسالة الثانية لبطرس كانت مشكوكاً في وجودها ضمن الاحصاءات الأولى .
ومن الجدير بالملاحظة أن كتابة الكتب والحصول عليها في تلك القرون الغابرة كان محفوفاً بالمصاعب والنفقات الثقيلة. وعدا ذلك لو أُحصيت أسفار العهدين المكتوبة بخط اليد بالحرف اليوناني الكبير المستعمل حينئذ لما بلغت مجلداً كبيراً فقط بل مجلدات كثيرة. ومع كل هذه المصاعب كانت توجد أسفار الكتاب المقدس مجموعة بين يدي كثيرين من المسيحيين في جهات مختلفة من العالم. وفي مجمع لاودكية الذي عُقد سنة 363 م الذي ذكرنا أنه أحصى أسفار العهد القديم ضمن اثنين وعشرين سفراً قد أحصى أيضاً أسفار العهد الجديد على الحالة التي هي عليها الآن ما عدا سفر الرؤيا. لأن بعض الكنائس قبلته وبعضه الم تقبله - يومئذ - . وفي مجمع قرطجنة الذي اجتمع سنة 397 م أقروا كل الأسفار المتداولة اليوم مشفوعة بهذا البيان قبِلْنا من آبائنا بأن هذه الأسفار ينبغي أن تُقرأ في الكنائس .
وعدا الاحصاءات المجمعية لأسفار العهد الجديد فقد أحصاها مشاهير الكتاب المسيحيين منذ القرون الأولى للميلاد. متحرّين أبحاثهم الخصوصية. منهم أوريجانوس الذي مات سنة 253 م وأثناسيوس الذي مات سنة 373 وأيسيبوس وكان معاصر اله. وكلهم أجمعوا في أبحاثهم الخصوصية على قانونية أسفار العهد الجديد كما قررتها المجامع. ويعقب إيسيبوس على إحصائه بهذه الملاحظة : إن بعض المسيحيين لم يقرروا رسالة يعقوب ولا رسالة يهوذا ولا الرسالة الثانية لبطرس ولا رسالتي يوحنا الثانية والثالثة ولا سفر الرؤيا. لكن بعد التحري الدقيق اقتنعنا بأن هذه الأسفار قانونية ويجب قبولها ضمن أسفار العهد الجديد بعد التأكد القوي أنها وحي الله .
إنه يوجد لدينا جملة جداول محصاة فيها أسفار العهد القديم يرجع تاريخها إلى ما قبل محمد. وهي موافقة لتوراة العصر الحاضر تمام الموافقة. قال يوسيفوس المؤرخ اليهودي في تاريخه الذي كتبه سنة 90 ميلادية لا يوجد بيننا معشر اليهود عشرات الألوف من الكتب المتناقضة. بل يوجد اثنان وعشرون سفراً نؤمن أنها موحى بها من الله محتوية على تاريخ كل العصور. منها خمسة أسفار - سفر التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية - لموسى. وتشتمل على شريعة الله وتاريخ الجنس البشري من ابتداء العالم إلى موته. أي نحو ثلاثة آلاف سنة تقريباً. ومن ذلك الوقت إلى حكم الملك أرتزركسيس الذي خلف زركسيس مدون في ثلاثة عشر سفراً - سفر يشوع والقضاة مع راعوث وصموئيل والملوك وأخبار الأيام وعزرا مع نحميا. وأستير وأيوب والاثنا عشر سفراللأنبياء الصغار وإشعياء وإرميا مع مراثيه وحزقيال ودانيال - . والأربعة الأسفار الباقية - المزامير والأمثال. والجامعة ونشيد الأنشاد - لتسبيح الله وتهذيب الأخلاق . وقدَّم لنا مجمع جامنيه الذي عُقد سنة 90 ميلادية قائمة هذه الأسفار بعينها. وقرر مجمع لادوكية أنها اثنان وعشرون سفراً. ثم في القرون المتأخرة جزأوا بعض هذه الأسفار لسهولة المراجعة.
ويمكننا أن نقدّر ونعين تاريخ التجزئة بالضبط. مثلاً في نسخة بطرسبرج التي كُتبت باللغة العبرية سنة 916 م لا تزال فيها الأسفار الصغار للأنبياء الاثني عشر - هوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجي وزكريا وملاخي - متضمنة في كتاب كل سفر كان يعتبر أصحاحاً. محصية فيه أعداد الآيات. أما تقسيم كل من سفر صموئيل والملوك والأخبار إلى جزئين وفصل عزرا عن نحميا فقد تم لأول مرة في طبعة العهد القديم العبرية في البندقية سنة 1516 و1517 ميلادية. يقول يوسيفوس المؤرخ إن الكتب الأخرى التي لا يساوون بينها وبين الاثنين والعشرين سفراً القانونية في الوثوق بأقوالها وقد ترجموا الكل إلى اليونانية. ومع أن هذه الأسفار الغير القانونية كُتبت وتُرجمت من قبل المسيح بكل اعتناء وتدقيق. لم ينزلوها منزلة الأسفار القانونية ولا عدّوها معها. وتمت هذه الترجمة بين سنة 247 و385 قبل المسيح في مصر بناء على طلب بطليموس الثاني الملقب فيلادلفيوس . ويظن البعض أنها بين سنة 200 و250 قبل المسيح ويرجحون الرأي الثاني. وليس هذا ذا بال. وتُدعى هذه الترجمة بالسبعينية نسبة إلى عدد الذين ترجموها. فإنهم كانوا سبعين عالماً من علماء اليهود. وهي أقوم ترجمة للتوراة في الوجود.
ولنذكر بعد ذلك الترجمات الأخرى للعهد القديم لزيادة التأكيد بأن التوراة التي بأيدينا اليوم هي التي كانت في عصر محمد وقبله بقرون كثيرة. لأنه إن لم تكن موجودة حينئذ فمن أين أتت تلك الترجمات وعلى الخصوص الترجمة السبعينية .
ثم الترجمة اليونانية التي تُرجمت بواسطة أكويلا التي تممها سنة 130 ميلادية وترجمها مرة أخرى رجل سامري اسمه سيماش. وفرغ منها سنة 218 ميلادية. ثم ترجمها إيرونيموس عن اللغة العبرية إلى الطليانية وتُسمى الترجمة اللاتينية. وفرغ منها سنة 405 ميلادية. وتُسمى الفولجاتا .
يقول يعقوب من أودسا إن التوراة تُرجمت أيضاً في حياة المسيح بناء على طلب ملك أودسا ابجار. ويظنون أن أول من أشار إلى الترجمة السريانية هو مليتس من أهالي ساردس في القرن الثاني. وينسبها آخرون إلى القرن الثالث. والترجمة السريانية الفيلكسية أتمها بوليكاربوس نحو سنة 508 وهذبها وأصلحها توماس هرقل 616 م. وعليه كل الترجمات السريانية كانت موجودة من قبل عصر محمد. والترجمة الأخيرة من هذه اللغة بوشرت في نفس أيامه.
ولما احتمى أصحاب محمد ببلاد الحبشة قبل الهجرة رأوا أهل تلك البلاد يقرأون التوراة والإنجيل في لغتهم الحبشية. وبسبب قِدم تلك الترجمة كان من الصعب على الأحباش فهمها. والمظنون أنها تُرجمت في القرن الرابع للميلاد. وكذلك لما فتح عمرو مصر وجد الدين الغالب فيها النصرانية. ووجد الكتاب المقدس مترجماً إلى اللغة القبطية في اصطلاحات البلاد الثلاثة الصعيدي والبحيري والبشموري. وقد تُرجمت عن الترجمة السبعينية. ويظن بعضهم أنها تُرجمت في ما بين القرن الثالث والرابع. ويقول بعضهم بل قبل ذلك.
وتُرجمت بعض أجزاء التوراة عن اللغة السريانية إلى الآرامية سنة 411 م وعن الترجمة السبعينية سنة 436 م. وبعد ذلك بنحو قرن تمت الترجمة المشهورة بترجمة القديس جاورجيوس. وكانت مع قرب عهدها قبل الهجرة بسنين كثيرة.
وترجم التوراة أسقف غوثية إلى لغة أهل بلاده سنة 360 من وأكثر هذه التراجم تممها قوم مسيحيون ما عدا الترجمة السبعينية والأكويلية طبعاً. كثيراً ما ترجم اليهود بعض أسفار التوراة إلى الآرامية حيثما ابتدأ أكثرهم يهملون التكلم بالعبرية. ومن بين هذه التراجم ترجمة أنكلوس التي تمت ما بين سنة 150 و200 م. وترجم يوناثان ابن عزيل أسفار الأنبياء سنة 320. م وعدا عن كل هذه الترجمات كان يوجد كتاب الترجوم الأورشليمي. ترجمة أسفار العهد القديم وشروحها إلى اللغة الآرامية. وقد تم في القرن السادس أي قبل الهجرة. ومن المعلوم أنه كان في سالف الزمان بغض شديد بين السامريين واليهود. ومن أجل ذلك لم يعتمد السامريون من التوراة سوى أسفار موسى الخمسة واعتبروها كما هي موحى بها من الله. ولم نعلم بالتأكيد متى حصلوا على نسخة الأسفار الخمسة. فيظن البعض أنه كان في سنة 606 ق. م. أي حينما ابتدأت سنو السبي السبعون. ويظن البعض أن منسى حفيد ألياشيب الكاهن العظيم - وهو الذي قد تزوج بابنة سنبلط كما جاء ذلك في سفر نحميا أصحاح 13 :28 - أحضر هذه الأسفار إلى السامرة حينما نفاه نحميا من أورشليم وأسس هناك هيكلاً على جبل جرزيم نحو سنة 409 ق م.
ولا يزال بين أيدي المسيحيين بعض النسخ من توراة السامريين - أي أسفار موسى الخمسة - باللغة العبرانية الأصلية. لكن بحروف مختلفة عن التي يستعملها اليهود.
وبمراجعة هذه الأدلة والتراجم المتعددة لأسفار العهد القديم عند اليهود والنصارى نجزم ونحتم أن توراة اليوم هي بذاتها التي كانت في عصر محمد. وشهد لها القرآن في آيات كثيرة. وأن القراءات المتعددة للتوراة لا تطعن في سلامتها ولا تشوش نقاوته الأنه الا تمس جوهر تعليمها. واختلاف القراءات مسألة لا بد منها لكل كتاب قديم عظيم كاختلافات قراءات القرآن.
ولنتكلم الآن في نسخ العهد الجديد المتداول اليوم في العالم المسيحي ونبحث هل هي الإنجيل الحقيقي الذي يشهد له القرآن. وهل هو الذي كان موجوداً في عصر محمد أم لا .
أما رجال العلم والتحقيق في كل العالم فلا يخالج قلوبهم أقل شك في صحة هذه الدعوى. لأن الأبحاث العصرية المتأخرة أثبتت أنه حتى في عصر المسيح كتب تلاميذه - الحواريون - مذكرات بأقواله وتعاليمه وأعماله. وكثير منها وارد في بشارة مرقس على نوع أخص. وفي بشارتي متى ولوقا أيضاً على نوع ما. إلا أن واقعة صلب المسيح وموته ودفنه وقيامته وصعوده لم يدون منها التلاميذ شيئاً إلا من بعد صعوده طبعاً. ثم أنهم لم يروا ضرورة تدفعهم إلى كتابة الإنجيل لقوم يعلمونه بمشاهدة العيان. إذ كانوا معاصرين ليسوع ورأوه وجه الوجه وكلموه شفاهياً وكانوا معه وحوله كل يوم يسمعون وعظه ويرون معجزاته - 1 كورنثوس 15 :6 وأعمال 1 :21 و22 - ولأن المسيح لم يأمرهم أن يكتبوا الإنجيل - الأخبار السارة - بل يكرزوا به. ليوضع الأساس على شهادة قوم أحياء معاصرين له شهادة شفاهية مشفوعة بدلائل الصدق والإخلاص. وأما كتابة الإنجيل - ومعناه الخبر السار أو البشارة السارة . فقد كتبها قبل الكل بولس الرسول ضمن رسالتين متواليتين بعث بهما إلى أهل تسالونيكي. ويرجع تاريخهما إلى ما بين سنة 22 و23 بعد صعود المسيح. ومثل هاتين الرسالتين بقية رسائل بولس في وحدة التعليم في كل المبادئ التي نتمسك بها إلى اليوم.
لكن لما مضى الجيل المعاصر للمسيح أو كاد. مسَّت الحاجة إلى تدوين الإنجيل في الأسفار لصون حقائقه من الطوارئ. وإفادة الأجيال الآتية. فألهم روح الله القدوس من اختار لتنفيذ هذه المهمة من رسل المسيح ورفقائهم القريبين منهم. فكتب أولاً القديس مرقس بشارته قبل خراب أورشليم سنة 70 للميلاد. وظن بعضهم أنه ما بين سنة 65 و66 في مدينة رومية. وكان مرقس رفيق الرسل المسيح وأحد تلامذته الأولي،ن وكان مشهوراً في الكنائس الأولى ومعروفاً عنه بأنه تلميذ بطرس. فكتب بشارته بناءً على معلوماته الشخصية ومعلومات بطرس. غير أن روح الله القدوس عصمه من الخطأ وذكّره بما عساه يكون نسيه. وألهمه ما يكتب في تلك الأخبار وما لا يكتب. وكتب متى رسول المسيح بشارته قبل سنة 70 للميلاد. وكتبه الوقا ما بين سنة 60 و70. وكتبها يوحنا ما بين سنة 90 و100 أي حينما بلغ من العمر سن الشيخوخة والحاصل أن بين أيدينا بشارت،ين لرسل المسيح. وهما بشارتا متى ويوحنا. وبشارتين لرفقائهما وهما بشارة مرقس - ومن المحتمل أن تكون من إملاء بطرس - وبشارة لوقا رفيق بولس الرسول. وهذا الأخير يقول في فاتحة كتابه إنه فحص واستعلم بالتدقيق عن كل ما كتب من شهود العين. ومم الا شك فيه أن الأصحاحين الأولين من بشارته كتبهما حسب شهادة العذراء مريم. وربما يقول معترض إن هذا كله لا يدل على أن هذه الكتب موحى بها من الله. فأجيب : نعم. ليست موحى بها كالوحي الذي يتصوره المسلمون ويروونه عن القرآن من أنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ من قبل خلق العالم ونزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر. ثم أملاه جبريل على محمد مفرَّقاً حسب الوقائع والأحوال. إن وحياً كهذا يظهر لنا معاشر المسحيين أنه ليس بالجيد فضلاً عن أنه لم يقم دليل على أن القرآن موحى به مثل هذا الوحي - كما هو مثبوت في كتاب مصادر الإسلام - . ويقول وعلماء النقد والتفكير إن فرضنا أن كتاباً مقدساً كُتب في السماء ونزل إلى الأرض على هذه الكيفية فلا يمكننا أن نقيم الدليل على أن ذلك الكتاب كُتب في السماء ولا أن له صلة بها. وأما الوحي التوراتي والإنجيلي فهو أن الله إذا أراد أن يعلن لعباده أمراً من الأمور على يد أنبيائه لا يتخذهم كآلات صماء. بل يستخدم عقولهم وأذهانهم وذاكرتهم وذكاءهم وأرواحهم في ما يكتبونه. فيكون وحياً - يوحنا 16 :13 - . ولنشرح هنا بعض المسائل التي تشوش على أذهان إخواننا المسلمين في فهم حقيقة الإنجيل. يقول بعضهم إن الإنجيل الذي بين أيدي المسيحيين اليوم ليس هو الإنجيل الحقيقي الذي أُنزل على المسيح لأننا نرى عندهم أربعة أناجيل لم تُكتب إلا بعد صعود المسيح بمدة طويلة. فنقول إن كتابة الإنجيل بعد صعود المسيح بمدة طويلة لا يطعن في صحته كما لا يطعن في صحة. القرآن كونه جمع بعد حياة محمد - كما ورد في مشكاة المصابيح ص 193 والمؤلفات المعتبرة - . وأما عندنا أربعة أناجيل فهو ليس بحق. فإن عندنا إنجيلاً واحد الأن كلمة إنجيل وإن كانت استُعملت اسم البعض أسفار العهد الجديد فمعناها خبر سار أو بشارة مفرحة. لأنها معدولة عن كلمة يونانية مجانسة لها لفظاً وتفيد هذا المعنى بالضبط. لكن إخواننا المسلمين قلما يفطنون لهذا المعنى.
ولما كانت خلاصة أسفار العهد الجديد وزبدتها إعلان محبة الله للبشر. بحيث أنه أرسل لهم يسوع المسيح ليخلّصهم من خطاياهم. وهذا خبر سار جداً. فدُعي به العهد الجديد أو بالعبارة اليونانية المعربة إنجيل . وبهذا لا تكون أناجيل كثيرة. بل إنجيل واحد كرز به متى ومرقس ولوقا ويوحنا وبولس وبطرس الخ. فالكارزون هم المتعددون. وأما الإنجيل فهو واحد غير متعدد. وبمراجعة الأصل اليوناني نجد البشائر الاربع التي في صدر أسفار العهد الجديد مسماة بكيفية تطابق الشرح الذي قدمناه. فبشارة متى مسماة إنجيل المسيح كما كتبه متى والبشارة الثانية مسماة إنجيل المسيح كما كتبه مرقس وهكذا. وإنما حباً بالاختصار اتفقوا على تسميتها بحسب الأسماء الحاضرة. وبعد البشائر الأربع سفر الأعمال - أي أعمال الرسل - وخلاصته أن الرسل كرزوا بالإنجيل في أقاليم كثيرة من العالم بين اليهود والأمم. وبدأوا بالكرازة بعد صعود المسيح بأيام قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع. والكارز الأول بالإنجيل هو نفس المسيح - مرقس 1 :15 و13 :10 ولوقا 20 :1 - وبهذا الاعتبار يكون الإنجيل نزل على المسيح. وقد شهد عن نفسه بأنه تلقى رسالته أي الإنجيل عن الله. وعلى ذلك قوله وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ. فَكَمَا قَالَ لِي الْآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ - يوحنا 12 :50 وقارن يوحنا 8 :28 و12 :49 -
وأما بقية أسفار العهد الجديد فلم تُقبل ضمن دائرة الوحي إلا بعد الاستفسار والتحري الدقيق والأسانيد الكافية. خشية أن ينطوي معها سهواً مصنفات أخرى. واستغرقت هذه المهمة زمناً طويلاً مراعاة للظروف الصعبة التي أحاطت بتلك الأسفار. مثل أن البعض منها كان رسائل خصوصية لأفراد معينين. كرسالة بولس الرسول الأولى والثانية إلى تيموثاوس وإلى تيطس وفليمون. ورسالة يوحنا الثانية والثالثة. والبعض الآخر بُعث أولاً كرسائل إلى كنائس معينة. إلا أننا علمنا من مؤلفات المسيحيين الأولين أن البشائر الأربع عُرفت وصار اعتمادها أنها وحي من الله ما بين سنة 70 إلى سنة 130 م. وقد تم من بعض الوجوه إحصاء أسفار العهد الجديد في سنة 170 م وسُمي هذا الإحصاء بالقانون الموراتوري. وقد اشتمل على كل أسفار العهد الجديد المتداولة اليوم ما عدا رسالة يعقوب الرسول. والرسالة الثانية لبطرس الرسول والرسالة إلى العبرانيين. وبعد التحري أبطلوا هذا القانون وعملوا إحصاءً جديداً تحروا فيه الضبط بأكثر تدقيق. يتضمن هذه الرسائل أيضاً مع الإشارة بأن الرسالة الثانية لبطرس كانت مشكوكاً في وجودها ضمن الاحصاءات الأولى .
ومن الجدير بالملاحظة أن كتابة الكتب والحصول عليها في تلك القرون الغابرة كان محفوفاً بالمصاعب والنفقات الثقيلة. وعدا ذلك لو أُحصيت أسفار العهدين المكتوبة بخط اليد بالحرف اليوناني الكبير المستعمل حينئذ لما بلغت مجلداً كبيراً فقط بل مجلدات كثيرة. ومع كل هذه المصاعب كانت توجد أسفار الكتاب المقدس مجموعة بين يدي كثيرين من المسيحيين في جهات مختلفة من العالم. وفي مجمع لاودكية الذي عُقد سنة 363 م الذي ذكرنا أنه أحصى أسفار العهد القديم ضمن اثنين وعشرين سفراً قد أحصى أيضاً أسفار العهد الجديد على الحالة التي هي عليها الآن ما عدا سفر الرؤيا. لأن بعض الكنائس قبلته وبعضه الم تقبله - يومئذ - . وفي مجمع قرطجنة الذي اجتمع سنة 397 م أقروا كل الأسفار المتداولة اليوم مشفوعة بهذا البيان قبِلْنا من آبائنا بأن هذه الأسفار ينبغي أن تُقرأ في الكنائس .
وعدا الاحصاءات المجمعية لأسفار العهد الجديد فقد أحصاها مشاهير الكتاب المسيحيين منذ القرون الأولى للميلاد. متحرّين أبحاثهم الخصوصية. منهم أوريجانوس الذي مات سنة 253 م وأثناسيوس الذي مات سنة 373 وأيسيبوس وكان معاصر اله. وكلهم أجمعوا في أبحاثهم الخصوصية على قانونية أسفار العهد الجديد كما قررتها المجامع. ويعقب إيسيبوس على إحصائه بهذه الملاحظة : إن بعض المسيحيين لم يقرروا رسالة يعقوب ولا رسالة يهوذا ولا الرسالة الثانية لبطرس ولا رسالتي يوحنا الثانية والثالثة ولا سفر الرؤيا. لكن بعد التحري الدقيق اقتنعنا بأن هذه الأسفار قانونية ويجب قبولها ضمن أسفار العهد الجديد بعد التأكد القوي أنها وحي الله .
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
وعلى ما تقدم لم تمض الأربعة القرون الأولى للميلاد حتى تقرر نهائياً اعتماد أسفار العهد الجديد على حالته الراهنة في فلسطين وسورية وقبرص وآسيا الصغرى وإيطاليا وشمال أفريقيا. ومن هنا لا ينبغي لذي عقل سليم أن يرتاب بأن الكتاب المقدس المتداول اليوم كان موجوداً بتمامه وعلى شكله الحاضر في عصر محمد بين المسيحيين المستوطنين في جزيرة العرب وسوريا ومصر والحبشة وغيرها من الأقاليم التي تعارف محمد بشعوبها.
وربما يقول قائل : انقرض الكتاب المقدس بعد عصر محمد. فكتب المسيحيون كتاباً آخر دعوه باسم الكتاب الأول الخ . فنجيب أن هذه الدعوى بمثابة من يدّعي أن القرآن بعدما ملأت نسخه الدنيا قد انقرض وكتب المسلمون كتاباً آخر وسموه باسمه. فهذه الدعوى لا يدعيها إلا كل جاهل. ومع ذلك نجيب عليها أنه من البراهين القاطعة على وجود وحدة الكتاب المقدس قبل محمد وبعده النسخ القديمة المخطوطة باليد في اللغة اليونانية. وهي اللغة الأصلية لأكثر أسفار العهد الجديد. واللغة التي تُرجمت إليها هي أقدم ترجمة للعهد القديم أي الترجمة السبعينية.
وأقدم متن عبراني موجود اليوم هي النسخة التي وُجدت في مصر وتشتمل على الوصايا العشر والقانون العبراني الوارد في - خروج 20 :2-17 وتثنية 6 :4-9 - وقد كتبت ما بين 220 و250 للميلاد أي قبل الهجرة بقرون. وأكبر نسخة للعهد القديم وأقدمها عندنا اليوم هي النسخة الشرقية نمرة 4445 محفوظة في المتحف البريطاني. وكُتبت ما بين سنة 820 و850. ويليها في الأقدمية نسخة سان بطرسبرج وهي مؤرخة سنة 916. وهاتان النسختان منقولتان عن نسخ أقدم منهما بكثير. وذكر الناسخ اسم اثنتين منها وهما نسخة - حليل - ونسخة - موخا - . وروى زكوت المؤرخ اليهودي أن نسخة حليل كُتبت سنة 597 م. وأنه رأى جزئين منها يشتملان على هذه الأسفار يشوع. قضاة. حزقيال. هوشع. يوئيل. عاموس. عوبديا. يونان. ميخا. ناحوم. حبقوق. صفنيا. حجي. زكريا وملاخي. وأما نسخة موخا فليست أقل أقدمية من النسخة الأخرى. ولا بد على الأقل أن إحدى هاتين النسختين كانت موجودة في عصر محمد. ومن تعليقات اليهود عليهما نعلم أنهما كانتا موافقتين لنسخة العهد القديم التي بين أيدينا. وعندنا نسخ كثيرة منقولة عن نسخ عبرانية أقدم منها.
وإن قيل ماذا جرى للنسخ العبرانية القديمة. نجيب بما يجيب به اليهود : وهو أنه عندما كانت تبلى النسخة من كثرة الاستعمال تحفظ في الخزانة حتى إذا مات رباني مشهور دفنوها معه. وبعض الأحيان يخشون عليها أن تُهمل مع طول الزمان وتُداس بأقدام أو يلحقها عارض يدنس ورقها وهذا حرام عندهم. فيُجهِزون عليها بالحريق.
وأما نسخ العهد القديم في الترجمة اليونانية الشهيرة بالترجمة السبعينية الذي يدل وجودها على وجود الأصل العبراني من قبلها فعندنا منها كثير. وقد كُتبت كلها قبل الهجرة بسنين عديدة وهاك أشهرها :
1 - النسخة السينائية كُتبت في القرن الرابع أو في بداية القرن الخامس
2 - النسخة الفاتيكانية كتبت في القرن الرابع وربما في بدايته
3 - النسخة الإسكندارنية كتبت فيما بين نصف القرن الخامس ونهايته
4 - النسخة القطونية كتبت في القرن الخامس أو السادس
5 - النسخة الأمبروسانية كتبت في نصف القرن الخامس
وكل هذه النسخ وجدت من قبل عصر محمد وفي عصره. وإذا أراد الباحث أن يتحرى هل إذا كانتهذه النسخ تضاهي النسخ المتداولة فما عليه إلا أن يزور مكاتب أوروبا الشهيرة ويقارن هذه بتلك. وإن نسخة العهد القديم اليونانية المستعملة اليوم طبعت عن هذه النسخ القديمة المذكورة. وبمراجعتها مع الأصل العبراني لم يوجد فرق ولا في تعليم واحد إلا اختلاف في القراءات بسيط جداً. مثل أن المترجمين أخطأوا في ترجمة كلمة صعبة على الفهم. وبمراجعة النسخ الحاضرة على الترجمة السبعينية لا يوجد فرق إلا في أعمار بعض الآباء الأولين المذكورين في أصحاحي 5 و10 من سفر التكوين. ولكن الاختلافات في القراءة لا تمس جوهر الكتاب في أدنى شيء.
وأما نسخ العهد الجديد اليونانية المتداولة فتعززها النسخ اليونانية الأصلية. وقد كتبت على رقوق لا على ورق. ولا محل لاعتراض رحمة الله الهندي من هذه الحيثية إذ يقال إن بقاء القرطاس والحروف إلى ألف وأربعماية سنة أو أزيد مستبعد عادة إلا أنه وُجد في مصر كتابات على ورق البردي يرجع تاريخها إلى ألف وثمانماية سنة كما هو معلوم عند رجال الآثار.
ولنرجع إلى ما نحن فيه. فنقول إن كثيراً من النسخ المتضمنة للترجمة اليونانية لأسفار العهد القديم تتضمن أيضاً أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني - أولاً - النسخة السينائية المذكورة سابقاً. وتوجد في المتحف الأمبراطوري بمدنية سان بطرسبرج - ثانياً - النسخة الفاتيكانية المحفوظة في مكتبة بابا رومية - الفاتيكان -- ثالثاً - النسخة الإسكندرانية وهي في متحف لندن. وقد ذكرنا تواريخها فراجعها في مواضعها - رابعاً - أنه في سنة 1907 اكتشفوا في دير قديم بقرب سوهاج إحدى مدائن صعيد مصر على أربعة أجزاء من النسخ القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع من باب الاحتمال أو القرن السادس بالتأكيد. واحد منها على سفر التثنية ويشوع وآخر على سفر المزامير. ويشتمل الثالث على البشائر الأربع والأخير على قطع من رسائل بولس الرسول - خامسا - النسخة البيزانية وكانت محفوظة في جامعة كمبردج بانكلترة وكتبت في بداية القرن السادس - سادساً - النسخة الأفرايمية وقد كتبت في أوائل القرن الخامس. وهي اليوم في المتحف الأهلي بباريس.
وعدا هذه النسخ الكبيرة توجد نسخ صغيرة تشتمل على أجزاء متفرقة من أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني. ومن أقدمها عهداً نسخة مخطوطة على شقة واحدة من البردي اكتُشفت حديثاً في أطلال البهنسا. وهي تشتمل على الأصحاح الأول والأصحاح العشرين من إنجيل يوحنا وكَُتبت ما بين سنة 200 و300 ميلادية أو بعبارة أخرى قبل محمد بأكثر من 270 سنة. وهذا الاكتشاف الحديث بالقطر المصري له اعتبار ممتاز من حيث وجهتنا الخصوصية التي نرمي إليها في هذا الموقف. بمعنى أن هاتين النسختين اللتين اكتُشفتا بسوهاج والبهنسا قد دُفنتا في صحاري مصر التي صارت فيما بعد بلاداً إسلامية قبل الهجرة بمئات من السنين. وبقيتا تحت التراب إلى هذه الأيام حتى عثروا عليهما. لا يقدر أحد يدعي مهما بلغت درجة تعصبه إنهما مزورتان بعد نزول القرآن أو محرفتان في أيام محمد أو بعده.
ويبلغ عدد النسخ القديمة للعهد الجديد بالأصل اليوناني ما بين جامعة لها وكلها. ولجزء منها. 3899 نسخة. فُحصت كلها فحصاً دقيقاً ونمروه التسهيل معرفة مواضعها على طلبة علم اللاهوت. وتوجد نسخ أخرى غير منمرة لا تقل عن ألفي نسخة.
وبما أننا تكلمنا على نسخ العهد الجديد بالأصل اليوناني يحسن بنا أن نتكلم أيضاً عن نسخه المترجمة. لا سيما وأن بعضها مترجم من قبل الهجرة بزمان طويل. منها ما هو منقول عن باشيطا السريانية ويبلغ على الأقل عشر نسخ مؤرخة في القرن الخامس. ونقل عنها ثلاثون نسخة مؤرخة في القرن السادس. وفي كلامنا عن العهد القديم أشرنا إلى ترجمات باللغات القديمة التي ليس على وجه الأرض من يحسن التكلم بها كلغته الأصلية. وكذلك ترجمات العهد الجديد. والكل محفوظ في متاحف الآثار. ويرجع تاريخها إلى ما قبل عصر محمد بمئات السنين إلا ترجمة واحدة كتبت في عصره ولكن قبل هجرته وسيأتي ذكرها.
ولتفصيل ذلك نقول إنه يوجد اليوم نسخ كثيرة من الترجمات القديمة للعهد الجديد إلى اللغة السريانية أشهرها - باشيطا - ترجمت ما بين القرن الثاني والثالث للميلاد. ونسخة فيلطس السريانية تمت سنة 508 م ونقحها توما الهرقلي سنة 616. ووجد عدا هذه ترجمات أخرى سريانية. ومما يدل على وجود هذه الترجمات السريانية للعهد الجديد قديماً هو أن طاطيان المولود سنة 110 م ألف اتفاق البشيرين الأربعة وعندنا ترجمته باللغة الأرمنية واللاتينية مع اختلاف طفيف. وعن السريانية ترجم ابن الطبيب المتوفي سنة 1043 نسخة عربية تُسمى دياطسرون ومعنى ذلك - اتفاق البشيرين - . واكتشفوا حديثاً قطعاً من ترجمة العهد الجديد من اليوناني إلى سريانية فلسطين التي كانت في عهد المسيح. وكتبت هذه الترجمة في القرن الرابع إن لم يكن قبله. ثم نسخة سنة 600 م وتُسمى نسخة كليماكوس وتشتمل على أجزاء من البشائر الأربع وسفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول.
وتُرجم العهد الجديد إلى اللاتينية قديماً كما يقرر ذلك أغسطينوس وإيرونيموس. قال الأخير : وُجدت ترجمات في بعض الأحيان لم تبلغ حدها في الصحة وذلك من جهل المترجمين. وأضبطها كلها الترجمة اللاتينية القديمة ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني للميلاد. ومع ذلك رأى إيرونيموس وجوب إيجاد ترجمة تكون أكثر ضبطاً من تلك لسد حاجة الشعب. فترجم العهد الجديد إلى اللاتينية ما بين سنة 383 و385 م وتُسمى الترجمة العامية وتوجد على الأقل ثمانية آلاف نسخة مخطوطة عن الترجمة العامية المذكورة. بعضها مؤرخ في القرن الرابع وبعضها في الخامس إلى السادس. وهذا كله تم قبل زمان محمد.
وقد ذكرنا في ما مضى أن العهد القديم تُرجم إلى اللغة القبطية في اصطلاحاتها الثلاثة. وهنا نقول إن العهد الجديد تُرجم كذلك. فالترجمة البحيرية تمت ما بين القرن الثالث والرابع. والترجمة الصعيدية تمت في ذلك التاريخ. وأما اللهجة البشمورية فكانت انقسمت إلى ثلاثة لهجات الفيومية والأخميمية والأقاليم الوسطى. وإلى كل واحدة من هذه ترجم بعض أسفار العهد الجديد أو كلها وأقدمها جميعاً الترجمة القبطية الصعيدية. ونسخها الأصلية ترجع إلى القرن الرابع والخامس.
والترجمة القوطية ترجمت نحو سنة 360 م وأقدمها نسخة أصلية لها كتبت إما في القرن الخامس أو السادس
وربما يقول قائل : انقرض الكتاب المقدس بعد عصر محمد. فكتب المسيحيون كتاباً آخر دعوه باسم الكتاب الأول الخ . فنجيب أن هذه الدعوى بمثابة من يدّعي أن القرآن بعدما ملأت نسخه الدنيا قد انقرض وكتب المسلمون كتاباً آخر وسموه باسمه. فهذه الدعوى لا يدعيها إلا كل جاهل. ومع ذلك نجيب عليها أنه من البراهين القاطعة على وجود وحدة الكتاب المقدس قبل محمد وبعده النسخ القديمة المخطوطة باليد في اللغة اليونانية. وهي اللغة الأصلية لأكثر أسفار العهد الجديد. واللغة التي تُرجمت إليها هي أقدم ترجمة للعهد القديم أي الترجمة السبعينية.
وأقدم متن عبراني موجود اليوم هي النسخة التي وُجدت في مصر وتشتمل على الوصايا العشر والقانون العبراني الوارد في - خروج 20 :2-17 وتثنية 6 :4-9 - وقد كتبت ما بين 220 و250 للميلاد أي قبل الهجرة بقرون. وأكبر نسخة للعهد القديم وأقدمها عندنا اليوم هي النسخة الشرقية نمرة 4445 محفوظة في المتحف البريطاني. وكُتبت ما بين سنة 820 و850. ويليها في الأقدمية نسخة سان بطرسبرج وهي مؤرخة سنة 916. وهاتان النسختان منقولتان عن نسخ أقدم منهما بكثير. وذكر الناسخ اسم اثنتين منها وهما نسخة - حليل - ونسخة - موخا - . وروى زكوت المؤرخ اليهودي أن نسخة حليل كُتبت سنة 597 م. وأنه رأى جزئين منها يشتملان على هذه الأسفار يشوع. قضاة. حزقيال. هوشع. يوئيل. عاموس. عوبديا. يونان. ميخا. ناحوم. حبقوق. صفنيا. حجي. زكريا وملاخي. وأما نسخة موخا فليست أقل أقدمية من النسخة الأخرى. ولا بد على الأقل أن إحدى هاتين النسختين كانت موجودة في عصر محمد. ومن تعليقات اليهود عليهما نعلم أنهما كانتا موافقتين لنسخة العهد القديم التي بين أيدينا. وعندنا نسخ كثيرة منقولة عن نسخ عبرانية أقدم منها.
وإن قيل ماذا جرى للنسخ العبرانية القديمة. نجيب بما يجيب به اليهود : وهو أنه عندما كانت تبلى النسخة من كثرة الاستعمال تحفظ في الخزانة حتى إذا مات رباني مشهور دفنوها معه. وبعض الأحيان يخشون عليها أن تُهمل مع طول الزمان وتُداس بأقدام أو يلحقها عارض يدنس ورقها وهذا حرام عندهم. فيُجهِزون عليها بالحريق.
وأما نسخ العهد القديم في الترجمة اليونانية الشهيرة بالترجمة السبعينية الذي يدل وجودها على وجود الأصل العبراني من قبلها فعندنا منها كثير. وقد كُتبت كلها قبل الهجرة بسنين عديدة وهاك أشهرها :
1 - النسخة السينائية كُتبت في القرن الرابع أو في بداية القرن الخامس
2 - النسخة الفاتيكانية كتبت في القرن الرابع وربما في بدايته
3 - النسخة الإسكندارنية كتبت فيما بين نصف القرن الخامس ونهايته
4 - النسخة القطونية كتبت في القرن الخامس أو السادس
5 - النسخة الأمبروسانية كتبت في نصف القرن الخامس
وكل هذه النسخ وجدت من قبل عصر محمد وفي عصره. وإذا أراد الباحث أن يتحرى هل إذا كانتهذه النسخ تضاهي النسخ المتداولة فما عليه إلا أن يزور مكاتب أوروبا الشهيرة ويقارن هذه بتلك. وإن نسخة العهد القديم اليونانية المستعملة اليوم طبعت عن هذه النسخ القديمة المذكورة. وبمراجعتها مع الأصل العبراني لم يوجد فرق ولا في تعليم واحد إلا اختلاف في القراءات بسيط جداً. مثل أن المترجمين أخطأوا في ترجمة كلمة صعبة على الفهم. وبمراجعة النسخ الحاضرة على الترجمة السبعينية لا يوجد فرق إلا في أعمار بعض الآباء الأولين المذكورين في أصحاحي 5 و10 من سفر التكوين. ولكن الاختلافات في القراءة لا تمس جوهر الكتاب في أدنى شيء.
وأما نسخ العهد الجديد اليونانية المتداولة فتعززها النسخ اليونانية الأصلية. وقد كتبت على رقوق لا على ورق. ولا محل لاعتراض رحمة الله الهندي من هذه الحيثية إذ يقال إن بقاء القرطاس والحروف إلى ألف وأربعماية سنة أو أزيد مستبعد عادة إلا أنه وُجد في مصر كتابات على ورق البردي يرجع تاريخها إلى ألف وثمانماية سنة كما هو معلوم عند رجال الآثار.
ولنرجع إلى ما نحن فيه. فنقول إن كثيراً من النسخ المتضمنة للترجمة اليونانية لأسفار العهد القديم تتضمن أيضاً أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني - أولاً - النسخة السينائية المذكورة سابقاً. وتوجد في المتحف الأمبراطوري بمدنية سان بطرسبرج - ثانياً - النسخة الفاتيكانية المحفوظة في مكتبة بابا رومية - الفاتيكان -- ثالثاً - النسخة الإسكندرانية وهي في متحف لندن. وقد ذكرنا تواريخها فراجعها في مواضعها - رابعاً - أنه في سنة 1907 اكتشفوا في دير قديم بقرب سوهاج إحدى مدائن صعيد مصر على أربعة أجزاء من النسخ القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع من باب الاحتمال أو القرن السادس بالتأكيد. واحد منها على سفر التثنية ويشوع وآخر على سفر المزامير. ويشتمل الثالث على البشائر الأربع والأخير على قطع من رسائل بولس الرسول - خامسا - النسخة البيزانية وكانت محفوظة في جامعة كمبردج بانكلترة وكتبت في بداية القرن السادس - سادساً - النسخة الأفرايمية وقد كتبت في أوائل القرن الخامس. وهي اليوم في المتحف الأهلي بباريس.
وعدا هذه النسخ الكبيرة توجد نسخ صغيرة تشتمل على أجزاء متفرقة من أسفار العهد الجديد بالأصل اليوناني. ومن أقدمها عهداً نسخة مخطوطة على شقة واحدة من البردي اكتُشفت حديثاً في أطلال البهنسا. وهي تشتمل على الأصحاح الأول والأصحاح العشرين من إنجيل يوحنا وكَُتبت ما بين سنة 200 و300 ميلادية أو بعبارة أخرى قبل محمد بأكثر من 270 سنة. وهذا الاكتشاف الحديث بالقطر المصري له اعتبار ممتاز من حيث وجهتنا الخصوصية التي نرمي إليها في هذا الموقف. بمعنى أن هاتين النسختين اللتين اكتُشفتا بسوهاج والبهنسا قد دُفنتا في صحاري مصر التي صارت فيما بعد بلاداً إسلامية قبل الهجرة بمئات من السنين. وبقيتا تحت التراب إلى هذه الأيام حتى عثروا عليهما. لا يقدر أحد يدعي مهما بلغت درجة تعصبه إنهما مزورتان بعد نزول القرآن أو محرفتان في أيام محمد أو بعده.
ويبلغ عدد النسخ القديمة للعهد الجديد بالأصل اليوناني ما بين جامعة لها وكلها. ولجزء منها. 3899 نسخة. فُحصت كلها فحصاً دقيقاً ونمروه التسهيل معرفة مواضعها على طلبة علم اللاهوت. وتوجد نسخ أخرى غير منمرة لا تقل عن ألفي نسخة.
وبما أننا تكلمنا على نسخ العهد الجديد بالأصل اليوناني يحسن بنا أن نتكلم أيضاً عن نسخه المترجمة. لا سيما وأن بعضها مترجم من قبل الهجرة بزمان طويل. منها ما هو منقول عن باشيطا السريانية ويبلغ على الأقل عشر نسخ مؤرخة في القرن الخامس. ونقل عنها ثلاثون نسخة مؤرخة في القرن السادس. وفي كلامنا عن العهد القديم أشرنا إلى ترجمات باللغات القديمة التي ليس على وجه الأرض من يحسن التكلم بها كلغته الأصلية. وكذلك ترجمات العهد الجديد. والكل محفوظ في متاحف الآثار. ويرجع تاريخها إلى ما قبل عصر محمد بمئات السنين إلا ترجمة واحدة كتبت في عصره ولكن قبل هجرته وسيأتي ذكرها.
ولتفصيل ذلك نقول إنه يوجد اليوم نسخ كثيرة من الترجمات القديمة للعهد الجديد إلى اللغة السريانية أشهرها - باشيطا - ترجمت ما بين القرن الثاني والثالث للميلاد. ونسخة فيلطس السريانية تمت سنة 508 م ونقحها توما الهرقلي سنة 616. ووجد عدا هذه ترجمات أخرى سريانية. ومما يدل على وجود هذه الترجمات السريانية للعهد الجديد قديماً هو أن طاطيان المولود سنة 110 م ألف اتفاق البشيرين الأربعة وعندنا ترجمته باللغة الأرمنية واللاتينية مع اختلاف طفيف. وعن السريانية ترجم ابن الطبيب المتوفي سنة 1043 نسخة عربية تُسمى دياطسرون ومعنى ذلك - اتفاق البشيرين - . واكتشفوا حديثاً قطعاً من ترجمة العهد الجديد من اليوناني إلى سريانية فلسطين التي كانت في عهد المسيح. وكتبت هذه الترجمة في القرن الرابع إن لم يكن قبله. ثم نسخة سنة 600 م وتُسمى نسخة كليماكوس وتشتمل على أجزاء من البشائر الأربع وسفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول.
وتُرجم العهد الجديد إلى اللاتينية قديماً كما يقرر ذلك أغسطينوس وإيرونيموس. قال الأخير : وُجدت ترجمات في بعض الأحيان لم تبلغ حدها في الصحة وذلك من جهل المترجمين. وأضبطها كلها الترجمة اللاتينية القديمة ويرجع تاريخها إلى القرن الثاني للميلاد. ومع ذلك رأى إيرونيموس وجوب إيجاد ترجمة تكون أكثر ضبطاً من تلك لسد حاجة الشعب. فترجم العهد الجديد إلى اللاتينية ما بين سنة 383 و385 م وتُسمى الترجمة العامية وتوجد على الأقل ثمانية آلاف نسخة مخطوطة عن الترجمة العامية المذكورة. بعضها مؤرخ في القرن الرابع وبعضها في الخامس إلى السادس. وهذا كله تم قبل زمان محمد.
وقد ذكرنا في ما مضى أن العهد القديم تُرجم إلى اللغة القبطية في اصطلاحاتها الثلاثة. وهنا نقول إن العهد الجديد تُرجم كذلك. فالترجمة البحيرية تمت ما بين القرن الثالث والرابع. والترجمة الصعيدية تمت في ذلك التاريخ. وأما اللهجة البشمورية فكانت انقسمت إلى ثلاثة لهجات الفيومية والأخميمية والأقاليم الوسطى. وإلى كل واحدة من هذه ترجم بعض أسفار العهد الجديد أو كلها وأقدمها جميعاً الترجمة القبطية الصعيدية. ونسخها الأصلية ترجع إلى القرن الرابع والخامس.
والترجمة القوطية ترجمت نحو سنة 360 م وأقدمها نسخة أصلية لها كتبت إما في القرن الخامس أو السادس
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
وهنا نتخذ وسائل أخرى لإقامة حجتنا عدا النسخ الأصلية والترجمات القديمة لأسفار العهد القديم والجديد التي فصلناها. فنقول إن كتابنا المقدس في العصر الحاضر هو عين الكتاب الذي كان قبل محمد. وذلك من الاقتباسات التي نُقلت عنه في مؤلفات المسيحيين القدماء في لغات مختلفة يوناني ولاتيني وسرياني وقبطي. ففي هذه المؤلفات وردت آيات كتابية كثيرة جداً. بحيث لو ضاع الكتاب من العالم يُجمع ثانية من هذه الاقتباسات. واعتبر هذا الدليل قياساً على القرآن. ألم تر في مؤلفات المسلمين آيات كثيرة منه .ولسنا مبالغين إن قلنا إنه ضاع القرآن اليوم. يُعاد من الاقتباسات الواردة في التفاسير والمؤلفات الإسلامية وصدور الحفظة الكثيرين. ومثل هذا إن لم نقل أكثر منه يوجد في مؤلفات المسيحيين. وأغرب من ذلك أن في مؤلفات الوثنيين القدماء أقوال ليست بقليلة مقتبسة من الكتاب المقدس. مثل كتابَي سلسوس فورفيري وجوليان الكافر. وعدا الاقتباسات الصريحة الواردة في مؤلفات المسيحيين القدماء يؤخذ من مضامينها ما يطابق تمام المطابقة حقائق الكتاب المعروف الآن. مثل أعمال المسيح وموته وقيامته وصعوده إلى السماء. ومثل الفداء إلى غير ذلك.
* * *
وعندنا أدلة أخرى عدا هذه وتلك تثبت ما نحن بصدده يمكننا تسميتها بالأدلة الأثرية. ففي مدينة روما اكتُشفت قبور كثيرين من مسيحيي القرون الأولى للمسيح في سراديب تحت الأرض منقوش عليها كتابات وصور يؤخذ منها إن هؤلاء المسيحيين يؤمنون بالعقائد التي يعلمنا إياها الإنجيل الآن. وأظن في هذا القدر كفاية لإقناع كل معاند ومكابر بأن أسفار العهد الجديد والقديم محفوظة بتمامها ونقاوتها من قبل عصر محمد الذي منها يقتبس ولها يشهد وإياها يحترم. وأن هذه الأسفار مُحصاة في جداول بين أيدي اليهود والمسيحيين تبيّن أنها أسفار موحى بها من الله. وكلها نص واحد قديمها وجديدها بمتونها الأصلية وترجماتها. لا يوجد بينها إلا اختلاف في القراءات كما أشرنا إلى ذلك في موضعه.
من أجل ذلك عندما يأمر القرآن محمداً أن يسأل أهل الكتاب عما جاء فيه من التعاليم يجب على المسلمين أن يفهموا ويتأكدوا أنه يقصد الكتاب الذي بين أيدينا الآن. لأنه هو الأسفار المقدسة الموجودة بين أيدي اليهود والمسيحيين في كل العالم لا غير. وقد رأينا في الفصل الأول أن القرآن يذكر في مواضع كثيرة الأقسام الرئيسية لهذا الكتاب. وهي التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل. ويرفعها إلى أعلى مراتب الكرامة. فيسميها تارة كلام الله وكتاب الله وتارة الفرقان والذِّكر ويهدد بأشد أنواع العذاب الذين كذبوا بها - سورة المؤمن 40 :70 - ويقول القرآن إنه نزل ليكون مهيمناً عليه - سورة المائدة 5 :48 - ويأمر المسلمين أن يؤمنوا بها كإيمانهم بنفس القرآن - سورة البقرة 2 :136 وسورة آل عمران 3 :84 - .
وبما أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة إن كتابنا المقدس هو كتاب الله فيجب عليكم حتماً أن تطالعوه باحترام ودعاء عسى أن يفتح الله الرحمن الرحيم أذهانكم لفهمه حتى تروه كما وصفه القرآن هدى وذكرى لأولي الألباب .
* * *
وعندنا أدلة أخرى عدا هذه وتلك تثبت ما نحن بصدده يمكننا تسميتها بالأدلة الأثرية. ففي مدينة روما اكتُشفت قبور كثيرين من مسيحيي القرون الأولى للمسيح في سراديب تحت الأرض منقوش عليها كتابات وصور يؤخذ منها إن هؤلاء المسيحيين يؤمنون بالعقائد التي يعلمنا إياها الإنجيل الآن. وأظن في هذا القدر كفاية لإقناع كل معاند ومكابر بأن أسفار العهد الجديد والقديم محفوظة بتمامها ونقاوتها من قبل عصر محمد الذي منها يقتبس ولها يشهد وإياها يحترم. وأن هذه الأسفار مُحصاة في جداول بين أيدي اليهود والمسيحيين تبيّن أنها أسفار موحى بها من الله. وكلها نص واحد قديمها وجديدها بمتونها الأصلية وترجماتها. لا يوجد بينها إلا اختلاف في القراءات كما أشرنا إلى ذلك في موضعه.
من أجل ذلك عندما يأمر القرآن محمداً أن يسأل أهل الكتاب عما جاء فيه من التعاليم يجب على المسلمين أن يفهموا ويتأكدوا أنه يقصد الكتاب الذي بين أيدينا الآن. لأنه هو الأسفار المقدسة الموجودة بين أيدي اليهود والمسيحيين في كل العالم لا غير. وقد رأينا في الفصل الأول أن القرآن يذكر في مواضع كثيرة الأقسام الرئيسية لهذا الكتاب. وهي التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل. ويرفعها إلى أعلى مراتب الكرامة. فيسميها تارة كلام الله وكتاب الله وتارة الفرقان والذِّكر ويهدد بأشد أنواع العذاب الذين كذبوا بها - سورة المؤمن 40 :70 - ويقول القرآن إنه نزل ليكون مهيمناً عليه - سورة المائدة 5 :48 - ويأمر المسلمين أن يؤمنوا بها كإيمانهم بنفس القرآن - سورة البقرة 2 :136 وسورة آل عمران 3 :84 - .
وبما أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة إن كتابنا المقدس هو كتاب الله فيجب عليكم حتماً أن تطالعوه باحترام ودعاء عسى أن يفتح الله الرحمن الرحيم أذهانكم لفهمه حتى تروه كما وصفه القرآن هدى وذكرى لأولي الألباب .
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
الفصل الرابع
أسفار العهد القديم والجديد لم تتحرَّف
رأينا في الفصل الماضي أن الكتاب المقدس معدود في القرآن كلام الله ورأينا في أكثر من موضع من القرآن أيضاً أن كلام الله غير قابل للتبديل والتغيير. فإذا كانت هاتان المقدمتان صحيحتين كانت النتيجة ضرورة هي عدم تحريف الكتاب المقدس.لا قبل محمد ولا بعده.
إلا أن هاتين المقدمتين تؤديان بنا إلى تصفُّح القرآن لنرى ماذا يقول في هذا الصدد. وكيف فسر أقواله المفسرون المعتبرون.مع العلم بأنهم لم يتفقوا على رأي واحد في هذه المسألة. وإنما لا يؤيدون الرأي العام الذي وُضع عند جهال المسلمين.
ورد في سورة الكهف 18 :27 وَا تْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ لا شك أن كلمة كتاب تشير إلى القرآن. ولكن قوله - لكلماته - تشمل الكتاب المقدس لأنه كلام الله. وبناءً عليه لا يكون مبدل لكلمات الكتاب المقدس. وهاك تفسير البيضاوي قال : لا مبدل لكلماته لا أحد يقدر على تبديلها أو تغييرها غيره .
وورد في سورة يونس 10 :64 لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ قال البيضاوي أي لا تغيير لأقواله ولا اختلاف لمواعيده . وورد في سورة الأنعام 6 :34 العبارة عينها - لا مبدل لكلمات الله - وجاءت مرة أخرى في آية 115 نعم قد ذكر البيضاوي على الآية الأخيرة أن الكتاب المقدس محرف. ولكن لم يقصد التحريف الذي يقوله عامة المسلمين كما سترى في ما بعد.
لما فحص علماء المسلمين في الهند هذه المسألة اقتنعوا في الوقت الحاضر بأن أسفار العهدين ليست بمبدلة ولا بمغيرة ولا محرفة حسب فهم العامة. ولعلهم بنو آراءهم على تفسير الإمام فخر الدين الرازي لأنه في تفسيره آل عمران 3 :78 يجيب معترضاً يسأل كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس فيجيب أولاً على سبيل التخمين : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف. ثم أنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام. وعلى هذا التقدير يكون التحريف ممكناً . فنجيب أولاً أن هذ اليس رأي المفسر. بل يفرضه فرضاً. وأما رأيه فهو هكذا إن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب. والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة. فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين. واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم. فكان هذا هو المراد بالتحريف وبليّ الألسنة - الرازي المجلد 2 - وانظر تفسيره على - سورة النساء 4 :45 مجلد 3 - حيث يعيد هذين الرأيين ويضيف عليها رأياً آخر خلاصته أن قوماً من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على الرسول يسألونه المسألة فيجيبهم عليها. ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه. وبناء على هذا الرأي لا يكون اليهود حرفوا كتابهم بل حرفوا جواب محمد على سؤالهم. وعلى كل حال عني الرازي بالتحريف الواقع من اليهود تحريف الشروح بالآيات الكتابية لا الآيات نفسها. وهو التحريف المعنوي لا اللفظي.
وحكى الرازي في تفسيره على سورة المائدة 5 :15 قصة مآلها أن اليهود فيما هم يقرأون التوراة - تث 22 :23 - لووا ألسنتهم وبدَّلوا معنى الرجم بالجلد ولم يمسوا لفظ الآية المكتوبة بأقل تحريف. وحكى البيضاوي في تفسيره سورة المائدة آية 44 هذه القصة عينها للدلالة على أن معنى التحريف المشار إليه في الآية التحريف المعنوي وهو المقصود بليّ الألسنة. وفسر قوله يحرفون الكلام من بعد مواضعه أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها. إم الفظاً بإهماله وتغيير وضعه. وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده .
فإن أردت أن تعرف أي الرأيين هو الرأي الصحيح فما عليك إلا أن تراجع سفر التثنية 22 :23 و24 في الأصل العبري أو في أية ترجمة حديثة أو قديمة. فتجد أية الرجم التي نسبوا إليها التحريف باقية على أصلها كما بينها القرآن والحديث في عصر محمد. وبذلك نعلم أن اليهود لم يحذفوا شيئاً من الآية ولا أمالوها عن موضعها. بقي الرأي الآخر وهو التحريف المعنوي الذي توصلوا إليه بتغيير المعنى. ومن العجب أن آية الرجم التي قالوا إن اليهود حرفوها كانت في القرآن كما نعلم من الحديث. ثم لا نرى لها الآن أثراً.
جاء في مشكاة المصابيح أن عمر قال أن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب. فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم. رجم رسول الله ورجمنا بعده. والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء. إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ]متفق عليه[. ]من الفصل الأول من كتاب الحدود[. ولكن لما جمع زيد بن ثابت القرآن حذفت هذه الآية لئلا يُقال عن عمر إنه زاد على القرآن. فإن صدق عمر في ما رواه يكون تحريف الكلام عن مواضعه المنوه عنه في القرآن في سورة المائدة 5 :44 واقعاً في القرآن لا في التوراة. ويكون المحرفون هم المسلمين لا اليهود!!
اتهم القرآن اليهود بكتمان الحق وهم يعلمون به. وبليّ ألسنتهم في الإجابة عن تعليم توراتهم في هذا الموضوع. واتهمهم بنبذ كتاب الله وراء ظهورهم وبالتحريف. وجاءت التهمة الأخيرة في أربعة مواضع منه - سورة البقرة 2 :75 وسورة النساء 4 :46 وسورة المائدة 5 :14 و44 - ولنا أن نلاحظ أن هذه الدعاوى مهما يكن من أمرها فإنها موجهة إلى اليهود فقط لا إلى المسيحيين. وعليه تكون أسفار العهد الجديد سالمة من مظنة هذه التهم. سواء قبل محمد أو بعده. بقي علينا أن نتساءل في تفسير ما عناه القرآن باتهامه اليهود بهذه التهم. وقد مر عليك تفسير الرازي والبيضاوي لثلاثة من الأربعة مواضع المذكورة سابقاً. ونتكلم الآن على الرابع وهو سورة البقرة 2 :75 اتفق المفسران البيضاوي والرازي أن المراد بالتحريف المذكور هنا تشويه التفسير وكتمان الحق - راجع سورة الأنعام 6 :91 حيث عزي إلى اليهود أنهم جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا منه ما أبدوا وأخفوا ما أخفوا - وإن يكن هذا العمل ممقوتاً إلا أنه بمعزل عن تبديل آيات الكتاب لأن إخفاء القرطاس يختلف عن تبديل ما ورد فيه.
ثم إن سألنا متى حرف اليهود توراتهم أجاب البيضاوي : حرفه أسلاف اليهود المعاصرين لمحمد. وأجاب الرازي : حرفه معاصرو محمد بالذات. على أن ذينك الإمامين أجابا بالجوابين المتقدمين رداً على من تصور أن التحريف لفظي ووقع كتابة. وهم يتبرآن من هذه الدعوى. ولهذه المناسبة قال الرازي في مجلد 3 في كيفية التحريف وجوه - أحدها - أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر. مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة. بوضعهم آدم طويل مكانه. ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ونظيره قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله. فإن قيل : كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب. قلنا : لعله يُقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة. فقدروا على هذا التحريف. ثم أن الرازي دحض هذا الجواب بقوله - والثاني - أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية. كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم. وهذا هو الأصح - الثالث - أنهم كانوا يدخلون على النبي ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به. فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه .
هذا رأي الرازي. ونتيجته أنه برأ اليهود من تهمة تبديل آيات التوراة. وعليه لما قال أن القرآن يؤكد وقوع التحريف بالتوراة ينبغي أن نفهم مقصوده الحقيقي لا الدعوى الباطلة التي يدّعيها جهلاء المتأخرين.
ومما تقدم نجاوب على كل من يدّعي أن الكتاب المقدس محرف في نصوصه. وأن الكتاب الصحيح غير موجود اليوم يكون مكذباً ومخالف الآيات القرآن الصريحة التي تشهد أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لأن من أهم أغراض القرآن أنه جاء ليكون مصدقا للكتاب المقدس. فكيف يصح أن يشهد له أنه صحيح وحق وموحى به من الله وهدى للناس. ثم يعود فينسب إليه التغيير وضياع الثقة منه وعدم التعويل عليه .لأنه إن صحَّ هذا يكون القرآن قد ناقض بعضه بعضاً.
ليس أحد يؤمن بالإله الحق يقدر أن ينسب إليه تعالى أنه أنزل القرآن مصدق الكتاب مبدَّل ومغيَّر ومشوش التعاليم في العقائد الدينية. وقد فطن لهذه النظرية الإمامان البيضاوي والرازي اللذان اقتبسنا تفسيرهما. وجزما بأنه لم يقع في الكتاب المقدس تغيير قط. لا قبل العصر المحمدي ولا بعده.
بقي للمعترض أن يقول : وقع التغيير في الكتاب المقدس في ذات عصر محمد. والرد على اعتراض كهذ الا يكلفنا مشقة ولا عناء. لأننا نجيب قائلين إن الأسفار المقدسة التي أشرنا إليها في مقدمة كلامنا كُتبت قبل عصر محمد بزمان طويل. والكتاب المتداول اليوم منسوخ عن ذلك الأصل. وعليه لا يتصور عاقل إجماع اليهود والنصارى على تغيير أسفارهم وقد انتشرت في كل العالم.
ومع هذا فإن عامة المسلمين وبعض علمائهم العديمي الخبرة بالموضوع لا يزالون يتصورون أن الكتاب المقدس بحالته الحاضرة مغيَّر. وإن سألتهم : متى وقع ذلك التغيير .لا يتفقون على جواب واحد. فيقول البعض : قبل عصر محمد. وآخرون : بعده. ويقول قائل منهم : قبله وبعده! وحتى يُثبتوا مزاعمهم عكفوا على كتب الكفرة والملحدين بكل دين. يلتقطون منها كل اعتراض سخيف ويحاربون بها الكتاب المقدس استظهارا لزعمهم بالتغيير. وجهلوا أو تجاهلوا أن هذه الاعتراضات التي تسلّحوا بها دُحضت منذ زمن طويل. ولم تعُد مقبولة بين العلماء الغربيين. ونرجو أن علماء المسلمين المحققين إن انخدعوا بها اليوم لا ينخدعون بها غداً.
حُكي أن بعض المسيحيين من أهل القرون الأولى بعد المسيح اتهموا اليهود بتهمة تغيير النصوص الإلهية كما يتهم المسلمون. لأنهم وجدوا فروقاً في أعمار الآباء المذكورين في أصحاح 5 و10 من سفر التكوين ما بين النسخة العبرية والترجمة السبعينية. فعللوا هذه الفروق بعلة التغيير. ولكن الذين ادعوا هذه الدعوى هم جهلاء المسيحيين لا علماؤهم. وأما الآن وقد مضى نحو ألف وأربعمائة سنة على الموضوع وقد درس الكتاب جيد الم يبق بين علماء الغرب من يدعي بأن اليهود غيروا توراتهم. لا في الموضع المشار إليه ولا في سواه. ثم أن بعض كتاب المسلمين اعترضوا على اختلاف القراءات التي يُقرأ بها الكتاب. واستدلوا بها على إفساد نصوصه. إلا أن هذه النظرية باطلة. لأنه توجد نسخ أصلية كثيرة ما بين عبري ويوناني ولغات أخرى إن قارنتها بعضها على بعض لا تخلو بطبيعة الحال من اختلاف القراءات كما هي الحال في جميع الكتب القديمة. ويا ترى ما جنس تلك القراءات المختلفة .إن أكثرها يرجع إلى اختلاف في الهجاء. مثل كلمة صلاة العربية تارة تكتب بالواو وتارة بالألف. ومثل كلمة قيامة تارة تكتب بالألف وتارة بدونها. ويرجع بعضها إلى اختلاف في تصريف الأفعال. كاختلاف القراءات القرآنية التي أشار إليها المفسرون وأثبتوا أنواعها في تفاسيرهم. ومن ذلك قراءات هذه الآية ما ننسخ من آية أو ننسها - البقرة 2 :106 - .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا قراءة حفص
مَا نُنْسِخْ الخ قراءة ابن عامر
نَنْسأَهَا قراءة ابن كثير وأبو عمرو
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا قراءة آخرين
تَنْسَهَا قراءة آخرين
تُنْسَهَا قراءة آخرين
نُنْسِكِهَا قراءة آخرين
مَا نُنْسِكَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسَخْهَا قراءة عبد الله
وفي سورة البقرة 2 :285 أشار البيضاوي إلى قراءات مختلفة
وَكُتُبِهِ قراءة حفص
وَكِتَابِهِ قراءة حمزة وصاحب الكشاف
لَا نُفَرِّقُ قراءة حفص
لَا يُفَرِّقُ قراءة يعقوب
لَا يُفَرِّقُونَ قراءة آخرين
ويقبل علماء السنيين قراءات أخرى على ما تقدمت الإشارة إليه من ذلك سورة الأنعام 6 :91 وسورة مريم 19 :35 وسورة القصص 28 :48 وسورة الاحزاب 33 :6 وسورة سبأ 34 :18 وسورة ص 38 :22 فهذه القراءات مهما تكن لا تغير معاني القرآن تغييراً يستحق الذكر. ولا تؤثر أقل تأثير في عقائده. فإن قام كاتب مسيحي واحتج باختلافات القراءات على وقوع التغيير في متن القرآن ألا يستجهله المسلمون أو يرمونه بالتعصب الذميم .فمثل هذا الحكم يجب أن يُحكم به على الذين يتخذون قراءات كتابنا حجة على تغييرها.
ثم أن اختلاف القراءات في الكتاب المقدس يوجد أكثر مما في القرآن. ولذلك جملة أسباب :
1 - لأن حجمه أربعة أضعاف القرآن.
2 - إنه أقدم من القرآن بكثير.
3 - إنه كُتب في ثلاث لغات العبرية واليونانية والآرامية وكتب القرآن بلغة واحدة وهي العربية.
4 - إحصاء القراءات في التراجم القديمة كلها ولو قد ثبت أن كثيراً منها غلطات وقعت من المترجمين ولم ينتج عنها اختلال جوهري.
5 - أُحصيت القراءات بعناية عظيمة وتدقيق كلي أكثر بكثير من العناية التي بُذلت في إحصاء القراءات القرآنية.
6 - وأهم من الكل أن الكتاب المقدس لم يصلحه ولا راجعه أحد قبل النشر. كما عمل عثمان ثالث خلفاء محمد بالقرآن. فقام على النسخ القديمة وأحرقها. ولم يُبقِ على نسخة إلا نسخة حفصة. ثم ألحقها مروان على ما قيل بأخواتها فأحرقها. ومع كل ذلك إن عرضنا على ميزان الاعتبار والفحص كل القراءات المختلفة الواقعة في الكتاب المقدس لا نجد شيئاً منها يمس جوهره.
وقد اتفق أن المفسرين المسيحيين لما عسر عليهم فهم كلمة أو آية من الكتاب تصوروا أنها وقعت خطأ من الناسخ واعتبروها مصحفة - أي وقعت بخطإٍ من الناسخ - . ولما اطلع علماء الإسلام على شيء من ذلك ترجموا عن غير علم كلمة مصحف بمغيَّر أو محرَّف مثل الشيخ رحمة الله الهندي. فإنه بناءً على ذلك ادّعى أن علماء النصارى يسلّمون بوقوع التغيير في كتابهم. مع أن المسألة بسيطة جداً. لأن الكلمة التي لم يفهمها المفسرون وظنوا أنها مصحفة كانوا يشيرون إليه الأجل مراجعتها وتصليحها.
أسفار العهد القديم والجديد لم تتحرَّف
رأينا في الفصل الماضي أن الكتاب المقدس معدود في القرآن كلام الله ورأينا في أكثر من موضع من القرآن أيضاً أن كلام الله غير قابل للتبديل والتغيير. فإذا كانت هاتان المقدمتان صحيحتين كانت النتيجة ضرورة هي عدم تحريف الكتاب المقدس.لا قبل محمد ولا بعده.
إلا أن هاتين المقدمتين تؤديان بنا إلى تصفُّح القرآن لنرى ماذا يقول في هذا الصدد. وكيف فسر أقواله المفسرون المعتبرون.مع العلم بأنهم لم يتفقوا على رأي واحد في هذه المسألة. وإنما لا يؤيدون الرأي العام الذي وُضع عند جهال المسلمين.
ورد في سورة الكهف 18 :27 وَا تْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ لا شك أن كلمة كتاب تشير إلى القرآن. ولكن قوله - لكلماته - تشمل الكتاب المقدس لأنه كلام الله. وبناءً عليه لا يكون مبدل لكلمات الكتاب المقدس. وهاك تفسير البيضاوي قال : لا مبدل لكلماته لا أحد يقدر على تبديلها أو تغييرها غيره .
وورد في سورة يونس 10 :64 لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ قال البيضاوي أي لا تغيير لأقواله ولا اختلاف لمواعيده . وورد في سورة الأنعام 6 :34 العبارة عينها - لا مبدل لكلمات الله - وجاءت مرة أخرى في آية 115 نعم قد ذكر البيضاوي على الآية الأخيرة أن الكتاب المقدس محرف. ولكن لم يقصد التحريف الذي يقوله عامة المسلمين كما سترى في ما بعد.
لما فحص علماء المسلمين في الهند هذه المسألة اقتنعوا في الوقت الحاضر بأن أسفار العهدين ليست بمبدلة ولا بمغيرة ولا محرفة حسب فهم العامة. ولعلهم بنو آراءهم على تفسير الإمام فخر الدين الرازي لأنه في تفسيره آل عمران 3 :78 يجيب معترضاً يسأل كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس فيجيب أولاً على سبيل التخمين : لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف. ثم أنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام. وعلى هذا التقدير يكون التحريف ممكناً . فنجيب أولاً أن هذ اليس رأي المفسر. بل يفرضه فرضاً. وأما رأيه فهو هكذا إن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب. والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة. فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين. واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم. فكان هذا هو المراد بالتحريف وبليّ الألسنة - الرازي المجلد 2 - وانظر تفسيره على - سورة النساء 4 :45 مجلد 3 - حيث يعيد هذين الرأيين ويضيف عليها رأياً آخر خلاصته أن قوماً من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على الرسول يسألونه المسألة فيجيبهم عليها. ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه. وبناء على هذا الرأي لا يكون اليهود حرفوا كتابهم بل حرفوا جواب محمد على سؤالهم. وعلى كل حال عني الرازي بالتحريف الواقع من اليهود تحريف الشروح بالآيات الكتابية لا الآيات نفسها. وهو التحريف المعنوي لا اللفظي.
وحكى الرازي في تفسيره على سورة المائدة 5 :15 قصة مآلها أن اليهود فيما هم يقرأون التوراة - تث 22 :23 - لووا ألسنتهم وبدَّلوا معنى الرجم بالجلد ولم يمسوا لفظ الآية المكتوبة بأقل تحريف. وحكى البيضاوي في تفسيره سورة المائدة آية 44 هذه القصة عينها للدلالة على أن معنى التحريف المشار إليه في الآية التحريف المعنوي وهو المقصود بليّ الألسنة. وفسر قوله يحرفون الكلام من بعد مواضعه أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها. إم الفظاً بإهماله وتغيير وضعه. وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده .
فإن أردت أن تعرف أي الرأيين هو الرأي الصحيح فما عليك إلا أن تراجع سفر التثنية 22 :23 و24 في الأصل العبري أو في أية ترجمة حديثة أو قديمة. فتجد أية الرجم التي نسبوا إليها التحريف باقية على أصلها كما بينها القرآن والحديث في عصر محمد. وبذلك نعلم أن اليهود لم يحذفوا شيئاً من الآية ولا أمالوها عن موضعها. بقي الرأي الآخر وهو التحريف المعنوي الذي توصلوا إليه بتغيير المعنى. ومن العجب أن آية الرجم التي قالوا إن اليهود حرفوها كانت في القرآن كما نعلم من الحديث. ثم لا نرى لها الآن أثراً.
جاء في مشكاة المصابيح أن عمر قال أن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب. فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم. رجم رسول الله ورجمنا بعده. والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء. إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ]متفق عليه[. ]من الفصل الأول من كتاب الحدود[. ولكن لما جمع زيد بن ثابت القرآن حذفت هذه الآية لئلا يُقال عن عمر إنه زاد على القرآن. فإن صدق عمر في ما رواه يكون تحريف الكلام عن مواضعه المنوه عنه في القرآن في سورة المائدة 5 :44 واقعاً في القرآن لا في التوراة. ويكون المحرفون هم المسلمين لا اليهود!!
اتهم القرآن اليهود بكتمان الحق وهم يعلمون به. وبليّ ألسنتهم في الإجابة عن تعليم توراتهم في هذا الموضوع. واتهمهم بنبذ كتاب الله وراء ظهورهم وبالتحريف. وجاءت التهمة الأخيرة في أربعة مواضع منه - سورة البقرة 2 :75 وسورة النساء 4 :46 وسورة المائدة 5 :14 و44 - ولنا أن نلاحظ أن هذه الدعاوى مهما يكن من أمرها فإنها موجهة إلى اليهود فقط لا إلى المسيحيين. وعليه تكون أسفار العهد الجديد سالمة من مظنة هذه التهم. سواء قبل محمد أو بعده. بقي علينا أن نتساءل في تفسير ما عناه القرآن باتهامه اليهود بهذه التهم. وقد مر عليك تفسير الرازي والبيضاوي لثلاثة من الأربعة مواضع المذكورة سابقاً. ونتكلم الآن على الرابع وهو سورة البقرة 2 :75 اتفق المفسران البيضاوي والرازي أن المراد بالتحريف المذكور هنا تشويه التفسير وكتمان الحق - راجع سورة الأنعام 6 :91 حيث عزي إلى اليهود أنهم جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا منه ما أبدوا وأخفوا ما أخفوا - وإن يكن هذا العمل ممقوتاً إلا أنه بمعزل عن تبديل آيات الكتاب لأن إخفاء القرطاس يختلف عن تبديل ما ورد فيه.
ثم إن سألنا متى حرف اليهود توراتهم أجاب البيضاوي : حرفه أسلاف اليهود المعاصرين لمحمد. وأجاب الرازي : حرفه معاصرو محمد بالذات. على أن ذينك الإمامين أجابا بالجوابين المتقدمين رداً على من تصور أن التحريف لفظي ووقع كتابة. وهم يتبرآن من هذه الدعوى. ولهذه المناسبة قال الرازي في مجلد 3 في كيفية التحريف وجوه - أحدها - أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر. مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة. بوضعهم آدم طويل مكانه. ونحو تحريفهم الرجم بوضعهم الحد بدله ونظيره قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله. فإن قيل : كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب. قلنا : لعله يُقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة. فقدروا على هذا التحريف. ثم أن الرازي دحض هذا الجواب بقوله - والثاني - أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية. كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم. وهذا هو الأصح - الثالث - أنهم كانوا يدخلون على النبي ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به. فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه .
هذا رأي الرازي. ونتيجته أنه برأ اليهود من تهمة تبديل آيات التوراة. وعليه لما قال أن القرآن يؤكد وقوع التحريف بالتوراة ينبغي أن نفهم مقصوده الحقيقي لا الدعوى الباطلة التي يدّعيها جهلاء المتأخرين.
ومما تقدم نجاوب على كل من يدّعي أن الكتاب المقدس محرف في نصوصه. وأن الكتاب الصحيح غير موجود اليوم يكون مكذباً ومخالف الآيات القرآن الصريحة التي تشهد أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لأن من أهم أغراض القرآن أنه جاء ليكون مصدقا للكتاب المقدس. فكيف يصح أن يشهد له أنه صحيح وحق وموحى به من الله وهدى للناس. ثم يعود فينسب إليه التغيير وضياع الثقة منه وعدم التعويل عليه .لأنه إن صحَّ هذا يكون القرآن قد ناقض بعضه بعضاً.
ليس أحد يؤمن بالإله الحق يقدر أن ينسب إليه تعالى أنه أنزل القرآن مصدق الكتاب مبدَّل ومغيَّر ومشوش التعاليم في العقائد الدينية. وقد فطن لهذه النظرية الإمامان البيضاوي والرازي اللذان اقتبسنا تفسيرهما. وجزما بأنه لم يقع في الكتاب المقدس تغيير قط. لا قبل العصر المحمدي ولا بعده.
بقي للمعترض أن يقول : وقع التغيير في الكتاب المقدس في ذات عصر محمد. والرد على اعتراض كهذ الا يكلفنا مشقة ولا عناء. لأننا نجيب قائلين إن الأسفار المقدسة التي أشرنا إليها في مقدمة كلامنا كُتبت قبل عصر محمد بزمان طويل. والكتاب المتداول اليوم منسوخ عن ذلك الأصل. وعليه لا يتصور عاقل إجماع اليهود والنصارى على تغيير أسفارهم وقد انتشرت في كل العالم.
ومع هذا فإن عامة المسلمين وبعض علمائهم العديمي الخبرة بالموضوع لا يزالون يتصورون أن الكتاب المقدس بحالته الحاضرة مغيَّر. وإن سألتهم : متى وقع ذلك التغيير .لا يتفقون على جواب واحد. فيقول البعض : قبل عصر محمد. وآخرون : بعده. ويقول قائل منهم : قبله وبعده! وحتى يُثبتوا مزاعمهم عكفوا على كتب الكفرة والملحدين بكل دين. يلتقطون منها كل اعتراض سخيف ويحاربون بها الكتاب المقدس استظهارا لزعمهم بالتغيير. وجهلوا أو تجاهلوا أن هذه الاعتراضات التي تسلّحوا بها دُحضت منذ زمن طويل. ولم تعُد مقبولة بين العلماء الغربيين. ونرجو أن علماء المسلمين المحققين إن انخدعوا بها اليوم لا ينخدعون بها غداً.
حُكي أن بعض المسيحيين من أهل القرون الأولى بعد المسيح اتهموا اليهود بتهمة تغيير النصوص الإلهية كما يتهم المسلمون. لأنهم وجدوا فروقاً في أعمار الآباء المذكورين في أصحاح 5 و10 من سفر التكوين ما بين النسخة العبرية والترجمة السبعينية. فعللوا هذه الفروق بعلة التغيير. ولكن الذين ادعوا هذه الدعوى هم جهلاء المسيحيين لا علماؤهم. وأما الآن وقد مضى نحو ألف وأربعمائة سنة على الموضوع وقد درس الكتاب جيد الم يبق بين علماء الغرب من يدعي بأن اليهود غيروا توراتهم. لا في الموضع المشار إليه ولا في سواه. ثم أن بعض كتاب المسلمين اعترضوا على اختلاف القراءات التي يُقرأ بها الكتاب. واستدلوا بها على إفساد نصوصه. إلا أن هذه النظرية باطلة. لأنه توجد نسخ أصلية كثيرة ما بين عبري ويوناني ولغات أخرى إن قارنتها بعضها على بعض لا تخلو بطبيعة الحال من اختلاف القراءات كما هي الحال في جميع الكتب القديمة. ويا ترى ما جنس تلك القراءات المختلفة .إن أكثرها يرجع إلى اختلاف في الهجاء. مثل كلمة صلاة العربية تارة تكتب بالواو وتارة بالألف. ومثل كلمة قيامة تارة تكتب بالألف وتارة بدونها. ويرجع بعضها إلى اختلاف في تصريف الأفعال. كاختلاف القراءات القرآنية التي أشار إليها المفسرون وأثبتوا أنواعها في تفاسيرهم. ومن ذلك قراءات هذه الآية ما ننسخ من آية أو ننسها - البقرة 2 :106 - .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا قراءة حفص
مَا نُنْسِخْ الخ قراءة ابن عامر
نَنْسأَهَا قراءة ابن كثير وأبو عمرو
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا قراءة آخرين
تَنْسَهَا قراءة آخرين
تُنْسَهَا قراءة آخرين
نُنْسِكِهَا قراءة آخرين
مَا نُنْسِكَ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسَخْهَا قراءة عبد الله
وفي سورة البقرة 2 :285 أشار البيضاوي إلى قراءات مختلفة
وَكُتُبِهِ قراءة حفص
وَكِتَابِهِ قراءة حمزة وصاحب الكشاف
لَا نُفَرِّقُ قراءة حفص
لَا يُفَرِّقُ قراءة يعقوب
لَا يُفَرِّقُونَ قراءة آخرين
ويقبل علماء السنيين قراءات أخرى على ما تقدمت الإشارة إليه من ذلك سورة الأنعام 6 :91 وسورة مريم 19 :35 وسورة القصص 28 :48 وسورة الاحزاب 33 :6 وسورة سبأ 34 :18 وسورة ص 38 :22 فهذه القراءات مهما تكن لا تغير معاني القرآن تغييراً يستحق الذكر. ولا تؤثر أقل تأثير في عقائده. فإن قام كاتب مسيحي واحتج باختلافات القراءات على وقوع التغيير في متن القرآن ألا يستجهله المسلمون أو يرمونه بالتعصب الذميم .فمثل هذا الحكم يجب أن يُحكم به على الذين يتخذون قراءات كتابنا حجة على تغييرها.
ثم أن اختلاف القراءات في الكتاب المقدس يوجد أكثر مما في القرآن. ولذلك جملة أسباب :
1 - لأن حجمه أربعة أضعاف القرآن.
2 - إنه أقدم من القرآن بكثير.
3 - إنه كُتب في ثلاث لغات العبرية واليونانية والآرامية وكتب القرآن بلغة واحدة وهي العربية.
4 - إحصاء القراءات في التراجم القديمة كلها ولو قد ثبت أن كثيراً منها غلطات وقعت من المترجمين ولم ينتج عنها اختلال جوهري.
5 - أُحصيت القراءات بعناية عظيمة وتدقيق كلي أكثر بكثير من العناية التي بُذلت في إحصاء القراءات القرآنية.
6 - وأهم من الكل أن الكتاب المقدس لم يصلحه ولا راجعه أحد قبل النشر. كما عمل عثمان ثالث خلفاء محمد بالقرآن. فقام على النسخ القديمة وأحرقها. ولم يُبقِ على نسخة إلا نسخة حفصة. ثم ألحقها مروان على ما قيل بأخواتها فأحرقها. ومع كل ذلك إن عرضنا على ميزان الاعتبار والفحص كل القراءات المختلفة الواقعة في الكتاب المقدس لا نجد شيئاً منها يمس جوهره.
وقد اتفق أن المفسرين المسيحيين لما عسر عليهم فهم كلمة أو آية من الكتاب تصوروا أنها وقعت خطأ من الناسخ واعتبروها مصحفة - أي وقعت بخطإٍ من الناسخ - . ولما اطلع علماء الإسلام على شيء من ذلك ترجموا عن غير علم كلمة مصحف بمغيَّر أو محرَّف مثل الشيخ رحمة الله الهندي. فإنه بناءً على ذلك ادّعى أن علماء النصارى يسلّمون بوقوع التغيير في كتابهم. مع أن المسألة بسيطة جداً. لأن الكلمة التي لم يفهمها المفسرون وظنوا أنها مصحفة كانوا يشيرون إليه الأجل مراجعتها وتصليحها.
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
ومن أمثلة ذلك كلمة وردت في دانيال 3 :2 و3 بالآرامية وهي - تفتايي - ولم توجد قط في كتاب آخر ولم يعرف معناها بالتدقيق ولا المادة المشتقة منها. فظن بعض المفسرين أن هذه الكلمة مصحفة أي خطأ من الناسخ. ولكن منذ سنين قليلة اكتشفوا كتابات آرامية قديمة في الآثار المصرية وردت فيها الكلمة المذكورة. وعرفوا معناها بالتدقيق وأصل اشتقاقها ومن هنا نعلم كيف حُفظت الأسفار بالصحة والضبط حتى في مثل هذه الكلمة.
وحدثت مثل هذه الكلمة في الكتاب المقدس على المنوال الذي به حدثت نظائرها في القرآن. من ضمنها قوله إن هذان - سورة طه 20 :63 - فكان من المحتمل أن بعض المفسرين يرتابون في صحة هذه العبارة ويقودهم ريبهم إلى اتحاذ الوسيلة لتصحيحها. كما أنهم صححوا بالفعل كلمة يفرق بكلمة يفرقون جرياً على سياق الكلام - سورة البقرة 2 :285 قراءة يعقوب - وظنها بعضهم مصحفة عن كلمة نفرق في - قراءة حفص - وأشار إلى ذلك البيضاوي.
ليس من مقصدنا هنا إيراد القراءات المختلفة التي جاءت في القرآن. بل نضرب لكم مثل الإزالة ما عساه يكون قد علق بأذهانكم من الشبهة في ما يقابل هذه القراءات في الكتاب المقدس. وأما القراءات في كتابنا فتنقسم باعتبار أهميتها إلى ثلاثة أقسام : - 1 - القراءات الناتجة عن إهمال الناسخ أو جهله - 2 - وتلك التي اقتضاها بعض النقص في الأصول المنسوخة - 3 - وتلك التي وضعت لتصحيح عبارة ظنها الكاتب الأخير خطأ من الكاتب الأول. وهي ليست بخطأ. ولا يسوغ عقل أن أحداً من المسيحيين قصد أن يتلف كتابه الذي يدين به ويهتدي بنوره. نعم إن بعض الهراطقة ليبرهنوا عقيدة عندهم أتوا بآيات ليس لها وجود إلا في نسخهم الخاصة من العهد الجديد. كما ادّعوا بأن الآيات التي تنقض تعليمهم لم تكن موجودة في النسخ الأصلية. ولو أن هؤلاء الهراطقة بلغوا لهذه الدرجة فإنهم لم يقصدوا أن يتلفوا كتابهم. وغاية ما في الأمر أنهم انخدعوا ببعض الأضاليل. غير أن المسيحيين على العموم ميزوا في كل وقت وفي كل حال الخطأ المدخل في نسخ الكتاب بمقابلتها على النسخ القديمة.
ثم نقول لو فرضنا أن فريقاً من اليهود أو النصارى غلت مراجل الحقد والتعصب في قلوبهم ضد الإسلام فتواطأوا معاً واجتمعت كلمتهم أن يحذفوا من التوراة والإنجيل كل ما يتعلق بمحمد. وقد فعلوا. فماذا يكون رأيك في بقية المسيحيين واليهود المتفرقين في كل أنحاء العالم .فإنهم بدون شك يرفضون أعمال تلك الجمعية الشيطانية. ويرفضون الكتاب المزور خوفاً من أن يشتركوا في جريمتهم العظيمة. ومالنا ولهذا الفرض .ففي وقائع التاريخ ما يغنينا عنه. لقد حدث قبل محمد بزمن طويل أن الهراطقة سعوا كثيراً. لكنهم عجزوا أخيراً عن أن يحرفوا العهد الجديد على وفق مبادئهم. وهذا يدل على عدم إمكانية هذا المشروع. وحاول رجل من أهل العصور الأولى اسمه ماكرون أن يحذف الأصحاحين الأولين من بشارة لوقا فلم يفلح. لا بين الجمهور. ولا بين فريق قليل منهم.
ثم نقول لو أن ملكاً أو صاحب سلطة سياسية قام بعد وفاة موسى بقليل وجمع كل نسخ التوراة أو أصحاحات منها وأحرقها. واستنسخ توراة جديدة من محفوظات بعض اليهود. ومن السطور المكتوبة على العظام وشقق الأخشاب ونشرها بأمر سلطاني. وألزم رعاياه في كل مكان بالاعتماد على هذه النسخة الجديدة. لما كانت تبلغ قراءاتها المختلفة إلى المقدار الذي بلغت إليه بدون هذا الفرض. إلا أننا كنا نقع في ورطة أدهى وأمر بكثير من اختلاف القراءات. هي ضياع الثقة من التوراة بالمرة. لأنه لا يبقى دليل على أن النسخة الجديدة طبق الأصل. وتكثر الظنون في البواعث التي حركت ذلك الملك أن يفعل تلك الفعلة المنكرة.
وكذلك تكون النتيجة لو وقع مثل هذا الفرض لأسفار العهد الجديد في ختام القرن الأول للمسيح. لأنه كان يتعذر علينا اليوم الإتيان بدليل شاف أن النسخة الجديدة موافقة للأسفار التي أُحرقت وتلاشت من الوجود. وتبقى الأذهان مرتبكة ومرتابة في صحتها إلى يوم يبعثون! ولكن لله الحمد. فإن مثل هذ الم يقع في كتابنا. لا في أسفار العهد القديم ولا في أسفار العهد الجديد. والحمد لله الذي لم يسمح أن يكون بيننا عثمان. ولا بين اليهود الحجاج.
قد حدث أن بعض أباطرة الرومان الوثنيين شرعوا أن يحرقوا نسخ الكتاب المقدس على أمل أن يلاشوه من الوجود. لا ليستنسخوا كتاباً جديداً على هواهم. فدافع المسيحيون عن كتابهم وفدوه بدمائهم. وكثيراً ما شرع مضطهِدوهم بمثل هذا الشروع فلم يفلحوا.
ولو فرضنا أن كل كتبنا أُحرقت عن آخرها بحيث لم يبق كتاب واحد. لكان المحروق هو الورق فقط. ولكانت كلمة الله هي الباقية. جاء في هذا المعنى يَبِسَ الْعُشْبُ. ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الْأَبَدِ - إشعياء 40 :8 - . تبقى وتثبت بوسائط كثيرة. منها أن كثيرين من المسيحيين في كل عصر شغفوا بالكتاب المقدس حتى استظهروا أهم اجزائه. سيما المزامير وأسفار العهد الجديد. وعليه لا يمكن أن نتصور ملاشاة الكتاب من الأرض والمسيحيون على ظهرها.
لما حدث الاضطهاد العظيم في فرنسا في القرن السادس عشر أقبل قسوس كنائس الإصلاح إلى الكتاب المقدس يحفظونه غيباً. حتى إذا سُلب من بين أيديهم يكون مدخراً في صدورهم ليستقوا من ينبوع الحياة رأساً ويرووا الآخرين. وقد أصبح معلوم الدى جميع الذين لهم قسط من الفطنة ما بذلته اليهود والنصارى من منتهى الجهد والحذر في الاحتفاظ على أسفارهم الإلهية نظير أرواحهم. وأصبحت الدعوى عليهم بأنهم بدلوا وغيروا أسفارهم قبل أو بعد الهجرة دعوى باطلة لا تصدر إلا من جاهل أو متعصب!
ولزيادة الشرح نقول : ما الفائدة التي كانت ترجوها اليهود والنصارى من وراء هذه الفعلة المحرمة. وكلٌّ يعلم بحكم العقل والنقل عظم جريمة تحريف الكتب الإلهية. وقد ورد في ختام العهد الجديد ذكر دينونة هائلة تحيق بمن يحذف أو يزيد شيئاً على ما هو مكتوب في الكتاب .وورد مثل ذلك في العهد القديم - تثنية 4 :2 ورؤيا 22 :18 و19 - وفضلاً عن كونهم لا يستفيدون شيئاً بل يخسرون رجاءهم فإنهم يعلمون أنهم بتحريفهم كتابهم لا يضرون أنفسهم فقط بل يضرون أولادهم وأحفادهم وهلم جراً.
وعدا ذلك نقول إن محمد الم يلبث زمناً طويلاً حتى بات ذا سلطان عريض وجنود وبيت مال. وكان الأقربإلى العقل أن النصارى واليهود الذين في بلاد العرب على الأقل لو كان في كتابهم أخبار عنه أو خبر. لكانوا أسرعوا به إليه والنسخة في أيديهم تزلّفاً إليه. إن لم يكن حباً في الدين فحباً في الدنيا. ولكان محمد وأتباعه يحرصون الحرص كله على كل تلك النسخ العزيزة التي شهدت له وشهد لها. عوضاً عن أن يحذفوا من كتابهم تلك الأخبار. ويعرّضون أنفسهم بغير داعٍ لحرب لا قِبل لهم بها. ويدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون - سورة التوبة 9 :29 - وينحدرون من مقام الحرية والمساواة إلى مقام الذمي الوضيع. ويبيتون هدفاً من آونة إلى أخرى للمذابح والفظائع كالتي جرت حتى في القرن العشرين في أطنة وما جاورها.
وكم من المشاهد المؤلمة تمثلت على مسارح الإسلام جيلاً بعد جيل بتحريض سورة التوبة على ألسنة حكام السوء وجمهور العوام.
لو كان اليهود والنصارى آمنوا بمحمد ورحبوا برسالته على العين والرأس لما نجوا فقط من هذه الرزايا. بل كانوا شاركوا المسلمين في حظوظهم وامتيازاتهم الدنيوية. لكن أبت نفوسهم أن ترد هذا المنهل. واعتصموا بإيمان آبائهم ولم يعيروا جانباً من الالتفات لخطبة الجمعة المذيلة بدعاء التهديد والإرهاب ينادى بها على المنابر في سائر أطراف مملكة آل عثمان. كقول الخطيب على منبره : اللهم رمِّل نساءهم. ويتِّم أطفالهم. وخرِّب كنائسهم. وكسر صلبانهم. واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين الخ . أليس من البيّن والجلي أنه إذا وُجد يهودي أو مسيحي كائن من كان جزءاً في كتابه يأمره بانتظار نبي من جزيرة العرب اسمه أحمد لكان بكل سرور اندمج في سلك الصحابة والتابعين. ويفوز بسعادة الدارين .ولست بمبالغ إن قلت إن الترغيبات التي اقترنت بالإسلام من نعيم الدنيا ومجده الجدير به الولا عناية الله ومخافته أن تغري أهل الكتاب لا أن يحذفوا منه خبر محمد بل يختلقوه فيه ويحشروه في كل فصل من فصوله. فعدم إدخال اليهود والمسيحيين خبر محمد في أسفارهم. وقد بلغ محمد وخلفاؤه ما بلغوا من السلطان أعظم دليل عند من وهبهم الله العدل والإنصاف على أمانة أهل الكتاب في حفظهم كتابهم على أصله بدون زيادة ولا نقصان.
ولو فرضنا أن طائفة من طوائف النصارى أو اليهود أضمرت السوء لمحمد حسداً وحقداً وحذفت خبره من الكتاب. لالدفع غُرم ولا لجلب غُنم. بل على سبيل المكيدة. لظهرت مكيدتهم للطوائف الأخرى وبادروا إلى إصلاح التحريف وردّوا الكتاب إلى أصله. وغني عن البيان ما بين النصارى واليهود من العداوة القديمة وما بين طوائف النصارى من الاختلاف المذهبي في دقائق الدين مما لا يتصور معه جمع كلمتهم والتأليف بين آرائهم على تغيير كتابهم. ولو فرضنا أنه أمكن ذلك بين يهود ونصارى جزيرة العرب فلا يمكن تعميمه في كل جهات العالم. وكانت تقع تلك الفئة الباغية تحت سخط الجمهور في كل مكان.
وعدا ذلك فإنه نبغ في العالم مؤرخون عظماء بين النصارى واليهود والمسلمين في عصر محمد وقبله وبعده وسجلوا في مؤلفاتهم حوادث الزمان. وباطلاعنا على توراتهم لم نر أثراً في تاريخ أحد منهم يدل على تواطؤ النصارى واليهود على حذف شيء من الأسفار المقدسة يتعلق بمحمد ولا بغير محمد.
وإن فرضنا أنه وُجد بين النصارى أو اليهود طائفة انتزعت مخافة الله من قلوبهم والحياء من الناس. بحيث لم يعودوا يبالون بعذاب الله ولا بملام الناس. وشرعوا يحذفون خبر محمد من التوراة والإنجيل. فإنهم يجدون ذلك ضرباً من المحال بسبب أن الديانة المسيحية وكتبها قبل الهجرة كانت قد انتشرت انتشاراً عظيماً. حتى أن سكان آسيا الصغرى وسوريا واليونان ومصر والحبشة وشمالي أفريقيا وإيطاليا قد اعترفت بالمسيح. بل وأكثر من ذلك فإن كثيرين في جزيرة العرب وبلاد فارس والأرمن والقوقاز والهند وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وانكلترا وألمانيا قد قبلوا المسيحية أيضاً. ولهذه البلاد لغات مختلفة تُرجم الكتاب إلى كثير منها،فتُرجم إلى الطليانية والأرمنية والأشورية والقبطية والكوشية والقوطية والقوقازية. وعدا هذه كانت التوراة موجودة في الأصل العبراني والعهد الجديد موجوداً في الأصل اليوناني. وتُرجمت التوراة كلها إلى اليونانية. وسُميت الترجمة السبعينية. وتُرجم كثير منها إلى الآرامية من قبل ميلاد المسيح.
ولا يخفى على أحد أن اليهود متفرقون في أنحاء العالم وبالأكثر في الجهات المشار إليها. وهم منقسمون إلى طوائف مختلفة. وكذلك المسيحيون منقسمون إلى طوائف كثيرة متضادة. فلا تقدر إحدى طوائف اليهود أو النصارى أن تُقدم على هذا المشروع خشية من تشهير الطوائف الأخرى بها. وعلى ما تقدم مهما يكن المرء أحمق أو مختل العقل فلا يبلغ منه الحمق والخلل حداً يتصور له معه إمكانية اتفاق اليهود والنصارى. هؤلاء مع اختلاف طوائفهم. وأولئك مع اختلاف طوائفهم وتوحيد رأيهم على تغيير أسفارهم الإلهية. وإن فرضنا المستحيل وقلنا بل اتفقوا كلهم وغيروا كتابهم وجردوا صحائفه من السيرة المحمدية. فماذا عسانا نقول عن النسخ التي اكتُشفت بعد عصر محمد ويرجع تاريخها إلى ما قبله . فمن يا ترى غيَّر هذه أيضاً وهي تحت الأرض مخفية مع الآثار القديمة. هل انضمت جماعة الجن إلى حزب المتواطئين .ثم أن للمسيحيين مؤلفات دينية تفوق الحصر تشتمل على اقتباسات في مواضيع مختلفة من الكتاب المقدس. فهل راجع المتواطئون هذه المؤلفات أيضاً ونقحوها من سيرة النبي العربي .
والأغرب من ذلك كله أنه بينما يزعم المسلمون أننا غيَّرنا كتابنا وحذفنا منه البراهين على رسالة نبيهم. يحاول علماؤهم الراسخون أن يثبتوا وجود هذه البراهين في كتابنا اليوم. فإن صدق علماؤهم. وكان في الكتاب براهين على ذكر محمد فلماذا إذاً تتهموننا بأننا حذفناها .أليس من عزم الأمور أن تستقروا على رأي واحد .
ومن أمثلة براهينهم التي يوردونها في الكتاب على البشارة بنبيهم ما وعد به المسيح تلاميذه من إرسال الفارقليط كما جاء في بشارة يوحنا 16 :7 لا يسلم المسيحيون أن الفارقليط هو محمد. إلا أن إبقاء هذه الآية في قلب الإنجيل لليوم دليل على أنه الم تُحذف منه. ثم نقول لو كان المسيحيون يريدون أن يحذفوا الآيات الدالة على نبوة محمد من كتابهم لكان الأولى بهم أن يحذفوا هذه الآية. لأنها هي الآية الوحيدة التي نبه إليها القرآن وعينها بالحصر وقال إنها تشير إلى نبوة محمد. حيث يقول وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ - سورة الصف 61 :6 - . وكما أن محمداً ادعى أنه الفارقليط الذي وعد به المسيح بإرساله. ادّعى من قبله هذه الدعوى عينها ماني الفارسي - كما يعلم ذوو الاطلاع - وبنى دعواه على آية المسيح المشار إليها. وتبعه بعض المسيحيين. ولما اتضح على توالي الأيام أنه دجال واضمحلت شيعته. لم يحذف المسيحيون هذه الآية التي استعان بها على ضلالته. وهاك هي موجودة في الإنجيل إلى اليوم.
ثم أن اليهود اطلعوا على آيات كثيرة في توراتهم تدل على المسيح دلالة واضحة. واحتج بها المسيحيون عليهم احتجاجا لم يجدوا معه سبيلاً إلى التخلص من الالتزام بالحق. وعداوتهم للمسيح أشهر من نار على علم. ولكم لم يحملهم هذا كله على تحريف آية واحدة من الآيات الدالة على المسيح مع كونها تلصق بهم أعظم جريمة وتقضي عليهم قضاء مريعاً. فلو كان اليهود حرفوا التوراة في شأن محمد .لكان الأولى بهم أن يحرفوها في شأن المسيح ويحذفوا منها هذه البينات الراهنات - تكوين 49 :10 وتثنية 18 : 15 و18 ومزامير 22 :14-18 وإشعياء 7 :14 و9 :6 و7 و11 :1-10 و52 :13 الخ وص 53 كله ودانيال 8 :13 و14 و9 :24-27 وميخا 5 :2 وزكريا 12 :10 - قابل هذه النصوص الجلية بما ورد في الإنجيل - لوقا 24 :25-27 - .
وفي التوراة آيات تتعلق بمسألة أخرى يود اليهود لو لم تكن موجودة فيها. وهي تلك التي تشهر بفظائعهم وجرائمهم المتناهية في القبح. فلو كانوا حرفوا توراتهم بخصوص محمد فما كان أجدر بهم أن يحذفوا كل ما يشين سمعتهم ويلصق بهم شر الفعال!
أمرهم الله أن يحافظوا على شريعة التوراة - يشوع 1 :7 - وأن لا ينقصوا منها ولا يزيدوا عليها - تثنية 4 :2 و12 :32 - فعملاً بالوصية حافظ اليهود على توراتهم. وخوفاً من أن تسقط منها كلمة أو حرف أحصوا كلمات كل سفر من أسفارها. بل أحصوها حروفاً وقيدوا الاحصاءات في كتبهم الدينية ليرجعوا إليها عند اللزوم. وليكن معلوماً أن نسخة التوراة المتداولة بين اليهود هي عين النسخة المتداولة بين النصارى. وكلتاهما تُطبعان في مطبعة واحدة.
ولئلا يظن بعضهم أنه ربما غيَّر اليهود توراتهم قبل المسيح. ونحن أخذناها عنهم مغيَّرة فصارت نسختهم ونسختنا واحدة. أقول إن القرآن كفانا مؤونة هذا الاعتراض. لأنه يشهد بأن المسيح جاء مصدقا لما معهم من التوراة. ثم أنه لا المسيح ولا رسله اتهموا اليهود بتهمة التحريف. وهاكم صحائف الإنجيل راجعوها تجدوها بيضاء نقية من هذه التهمة. في حين أنها شهرت بخطاياهم في غير هذه المسألة. بل يشهد الإنجيل للتوراة بأنها موحى بها من الله. وأنها باقية على أصلها. وبحرص المسيحيين على قرائتها والعمل بها. ومن ذلك الآيات الآتية في الإنجيل - متى 5 :17 و18 و22 :31 و32 ومرقس 7 :6-10 ولوقا 11 :29-32 و24 :25-27 ويوحنا 5 :39 و45-47 و2 تيموثاوس 3 :16 - . من هذه الآيات البينة يتضح أنه في عصر المسيح ورسله قبلت التوراة لديهم كتاباً موحى به من الله ليس بها مساس من مظنة التحريف والتغيير. لأنه لو حرفها اليهود لكان المسيح وبَّخهم علانية على هذا الشر العظيم. ولأشار بلا شك إلى مواضع التحريف وأصلحها لتبقى صالحة للاستعمال في كنيسته.
وهذه النظرية ذاتها تثبت عدم ضياع التوراة وعدم تحريفها عند خراب أورشليم في زمن بختنصر والأسر البابلي. ولو حدث شيء لكان المسيح بيَّن الحقيقة.
إن بعض كتاب المسلمين يدعون أنه في وسعهم أن يثبتوا وقوع التحريف عمداً في التوراة. ويعينوا الآيات المحرفة. ومنها على ما يدّعون الآية الواردة في سفر التثنية 27 :4 ففي النسخة السامرية مكتوب جبل جرزيم وفي العبرانية جبل عيبال ولكن الحقيقة هيأنه ليست النسخة العبرانية وحدها المكتوب فيها جبل عيبال بل في كل التراجم القديمة كالترجمة السبعينية واللاتينية الدارجة والسريانية والباشطا والأرمنية والحبشية.
وعليه فالعبارة الأصلية جبل عيبال كما في الأصل العبري لا جبل جرزيم كما في النسخة السامرية التي حرفها السامريون لرغبتهم الخصوصية في الجبل الذي سموه بهذا الاسم. ومع كونهم حرفوا نسختهم في هذه الكلمة انحصر التحريف فيها. ولم يتعدَّ إلى النسخ الأخرى المعتمدة عند طوائف اليهود وطوائف النصارى. وهناك احتمال آخر في هذه المسألة. فربما ظنَّ الناسخ الذي نقل النسخة السامرية عن العبرانية أن الكاتب الأول كتب جبل عيبال سهواً عوض جبل جرزيم لمناسبة ما ورد في عدد 12 من ذلك الأصحاح. ما مؤداه أن بعضاً من الأسباط الاثني عشر يقفون على جبل جرزيم ويباركون الشعب والبعض الآخر يقفون على جبل عيبال وينطقون باللعنات على من يرتكب تلك المعاصي المذكورة هناك. ويقول الشعب آمين . فمن المحتمل أن كاتب النسخة السامرية ظن المقصود جبل البركات لا جبل اللعنات. وعلى كل حال فإن السامريين لم يقدروا أن يعمموا هذا الخطأ أو التحريف إلا في دائرتهم الخصوصية - إن صح أنه تحريف!! -
وحدثت مثل هذه الكلمة في الكتاب المقدس على المنوال الذي به حدثت نظائرها في القرآن. من ضمنها قوله إن هذان - سورة طه 20 :63 - فكان من المحتمل أن بعض المفسرين يرتابون في صحة هذه العبارة ويقودهم ريبهم إلى اتحاذ الوسيلة لتصحيحها. كما أنهم صححوا بالفعل كلمة يفرق بكلمة يفرقون جرياً على سياق الكلام - سورة البقرة 2 :285 قراءة يعقوب - وظنها بعضهم مصحفة عن كلمة نفرق في - قراءة حفص - وأشار إلى ذلك البيضاوي.
ليس من مقصدنا هنا إيراد القراءات المختلفة التي جاءت في القرآن. بل نضرب لكم مثل الإزالة ما عساه يكون قد علق بأذهانكم من الشبهة في ما يقابل هذه القراءات في الكتاب المقدس. وأما القراءات في كتابنا فتنقسم باعتبار أهميتها إلى ثلاثة أقسام : - 1 - القراءات الناتجة عن إهمال الناسخ أو جهله - 2 - وتلك التي اقتضاها بعض النقص في الأصول المنسوخة - 3 - وتلك التي وضعت لتصحيح عبارة ظنها الكاتب الأخير خطأ من الكاتب الأول. وهي ليست بخطأ. ولا يسوغ عقل أن أحداً من المسيحيين قصد أن يتلف كتابه الذي يدين به ويهتدي بنوره. نعم إن بعض الهراطقة ليبرهنوا عقيدة عندهم أتوا بآيات ليس لها وجود إلا في نسخهم الخاصة من العهد الجديد. كما ادّعوا بأن الآيات التي تنقض تعليمهم لم تكن موجودة في النسخ الأصلية. ولو أن هؤلاء الهراطقة بلغوا لهذه الدرجة فإنهم لم يقصدوا أن يتلفوا كتابهم. وغاية ما في الأمر أنهم انخدعوا ببعض الأضاليل. غير أن المسيحيين على العموم ميزوا في كل وقت وفي كل حال الخطأ المدخل في نسخ الكتاب بمقابلتها على النسخ القديمة.
ثم نقول لو فرضنا أن فريقاً من اليهود أو النصارى غلت مراجل الحقد والتعصب في قلوبهم ضد الإسلام فتواطأوا معاً واجتمعت كلمتهم أن يحذفوا من التوراة والإنجيل كل ما يتعلق بمحمد. وقد فعلوا. فماذا يكون رأيك في بقية المسيحيين واليهود المتفرقين في كل أنحاء العالم .فإنهم بدون شك يرفضون أعمال تلك الجمعية الشيطانية. ويرفضون الكتاب المزور خوفاً من أن يشتركوا في جريمتهم العظيمة. ومالنا ولهذا الفرض .ففي وقائع التاريخ ما يغنينا عنه. لقد حدث قبل محمد بزمن طويل أن الهراطقة سعوا كثيراً. لكنهم عجزوا أخيراً عن أن يحرفوا العهد الجديد على وفق مبادئهم. وهذا يدل على عدم إمكانية هذا المشروع. وحاول رجل من أهل العصور الأولى اسمه ماكرون أن يحذف الأصحاحين الأولين من بشارة لوقا فلم يفلح. لا بين الجمهور. ولا بين فريق قليل منهم.
ثم نقول لو أن ملكاً أو صاحب سلطة سياسية قام بعد وفاة موسى بقليل وجمع كل نسخ التوراة أو أصحاحات منها وأحرقها. واستنسخ توراة جديدة من محفوظات بعض اليهود. ومن السطور المكتوبة على العظام وشقق الأخشاب ونشرها بأمر سلطاني. وألزم رعاياه في كل مكان بالاعتماد على هذه النسخة الجديدة. لما كانت تبلغ قراءاتها المختلفة إلى المقدار الذي بلغت إليه بدون هذا الفرض. إلا أننا كنا نقع في ورطة أدهى وأمر بكثير من اختلاف القراءات. هي ضياع الثقة من التوراة بالمرة. لأنه لا يبقى دليل على أن النسخة الجديدة طبق الأصل. وتكثر الظنون في البواعث التي حركت ذلك الملك أن يفعل تلك الفعلة المنكرة.
وكذلك تكون النتيجة لو وقع مثل هذا الفرض لأسفار العهد الجديد في ختام القرن الأول للمسيح. لأنه كان يتعذر علينا اليوم الإتيان بدليل شاف أن النسخة الجديدة موافقة للأسفار التي أُحرقت وتلاشت من الوجود. وتبقى الأذهان مرتبكة ومرتابة في صحتها إلى يوم يبعثون! ولكن لله الحمد. فإن مثل هذ الم يقع في كتابنا. لا في أسفار العهد القديم ولا في أسفار العهد الجديد. والحمد لله الذي لم يسمح أن يكون بيننا عثمان. ولا بين اليهود الحجاج.
قد حدث أن بعض أباطرة الرومان الوثنيين شرعوا أن يحرقوا نسخ الكتاب المقدس على أمل أن يلاشوه من الوجود. لا ليستنسخوا كتاباً جديداً على هواهم. فدافع المسيحيون عن كتابهم وفدوه بدمائهم. وكثيراً ما شرع مضطهِدوهم بمثل هذا الشروع فلم يفلحوا.
ولو فرضنا أن كل كتبنا أُحرقت عن آخرها بحيث لم يبق كتاب واحد. لكان المحروق هو الورق فقط. ولكانت كلمة الله هي الباقية. جاء في هذا المعنى يَبِسَ الْعُشْبُ. ذَبُلَ الزهْرُ. وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى الْأَبَدِ - إشعياء 40 :8 - . تبقى وتثبت بوسائط كثيرة. منها أن كثيرين من المسيحيين في كل عصر شغفوا بالكتاب المقدس حتى استظهروا أهم اجزائه. سيما المزامير وأسفار العهد الجديد. وعليه لا يمكن أن نتصور ملاشاة الكتاب من الأرض والمسيحيون على ظهرها.
لما حدث الاضطهاد العظيم في فرنسا في القرن السادس عشر أقبل قسوس كنائس الإصلاح إلى الكتاب المقدس يحفظونه غيباً. حتى إذا سُلب من بين أيديهم يكون مدخراً في صدورهم ليستقوا من ينبوع الحياة رأساً ويرووا الآخرين. وقد أصبح معلوم الدى جميع الذين لهم قسط من الفطنة ما بذلته اليهود والنصارى من منتهى الجهد والحذر في الاحتفاظ على أسفارهم الإلهية نظير أرواحهم. وأصبحت الدعوى عليهم بأنهم بدلوا وغيروا أسفارهم قبل أو بعد الهجرة دعوى باطلة لا تصدر إلا من جاهل أو متعصب!
ولزيادة الشرح نقول : ما الفائدة التي كانت ترجوها اليهود والنصارى من وراء هذه الفعلة المحرمة. وكلٌّ يعلم بحكم العقل والنقل عظم جريمة تحريف الكتب الإلهية. وقد ورد في ختام العهد الجديد ذكر دينونة هائلة تحيق بمن يحذف أو يزيد شيئاً على ما هو مكتوب في الكتاب .وورد مثل ذلك في العهد القديم - تثنية 4 :2 ورؤيا 22 :18 و19 - وفضلاً عن كونهم لا يستفيدون شيئاً بل يخسرون رجاءهم فإنهم يعلمون أنهم بتحريفهم كتابهم لا يضرون أنفسهم فقط بل يضرون أولادهم وأحفادهم وهلم جراً.
وعدا ذلك نقول إن محمد الم يلبث زمناً طويلاً حتى بات ذا سلطان عريض وجنود وبيت مال. وكان الأقربإلى العقل أن النصارى واليهود الذين في بلاد العرب على الأقل لو كان في كتابهم أخبار عنه أو خبر. لكانوا أسرعوا به إليه والنسخة في أيديهم تزلّفاً إليه. إن لم يكن حباً في الدين فحباً في الدنيا. ولكان محمد وأتباعه يحرصون الحرص كله على كل تلك النسخ العزيزة التي شهدت له وشهد لها. عوضاً عن أن يحذفوا من كتابهم تلك الأخبار. ويعرّضون أنفسهم بغير داعٍ لحرب لا قِبل لهم بها. ويدفعون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون - سورة التوبة 9 :29 - وينحدرون من مقام الحرية والمساواة إلى مقام الذمي الوضيع. ويبيتون هدفاً من آونة إلى أخرى للمذابح والفظائع كالتي جرت حتى في القرن العشرين في أطنة وما جاورها.
وكم من المشاهد المؤلمة تمثلت على مسارح الإسلام جيلاً بعد جيل بتحريض سورة التوبة على ألسنة حكام السوء وجمهور العوام.
لو كان اليهود والنصارى آمنوا بمحمد ورحبوا برسالته على العين والرأس لما نجوا فقط من هذه الرزايا. بل كانوا شاركوا المسلمين في حظوظهم وامتيازاتهم الدنيوية. لكن أبت نفوسهم أن ترد هذا المنهل. واعتصموا بإيمان آبائهم ولم يعيروا جانباً من الالتفات لخطبة الجمعة المذيلة بدعاء التهديد والإرهاب ينادى بها على المنابر في سائر أطراف مملكة آل عثمان. كقول الخطيب على منبره : اللهم رمِّل نساءهم. ويتِّم أطفالهم. وخرِّب كنائسهم. وكسر صلبانهم. واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين الخ . أليس من البيّن والجلي أنه إذا وُجد يهودي أو مسيحي كائن من كان جزءاً في كتابه يأمره بانتظار نبي من جزيرة العرب اسمه أحمد لكان بكل سرور اندمج في سلك الصحابة والتابعين. ويفوز بسعادة الدارين .ولست بمبالغ إن قلت إن الترغيبات التي اقترنت بالإسلام من نعيم الدنيا ومجده الجدير به الولا عناية الله ومخافته أن تغري أهل الكتاب لا أن يحذفوا منه خبر محمد بل يختلقوه فيه ويحشروه في كل فصل من فصوله. فعدم إدخال اليهود والمسيحيين خبر محمد في أسفارهم. وقد بلغ محمد وخلفاؤه ما بلغوا من السلطان أعظم دليل عند من وهبهم الله العدل والإنصاف على أمانة أهل الكتاب في حفظهم كتابهم على أصله بدون زيادة ولا نقصان.
ولو فرضنا أن طائفة من طوائف النصارى أو اليهود أضمرت السوء لمحمد حسداً وحقداً وحذفت خبره من الكتاب. لالدفع غُرم ولا لجلب غُنم. بل على سبيل المكيدة. لظهرت مكيدتهم للطوائف الأخرى وبادروا إلى إصلاح التحريف وردّوا الكتاب إلى أصله. وغني عن البيان ما بين النصارى واليهود من العداوة القديمة وما بين طوائف النصارى من الاختلاف المذهبي في دقائق الدين مما لا يتصور معه جمع كلمتهم والتأليف بين آرائهم على تغيير كتابهم. ولو فرضنا أنه أمكن ذلك بين يهود ونصارى جزيرة العرب فلا يمكن تعميمه في كل جهات العالم. وكانت تقع تلك الفئة الباغية تحت سخط الجمهور في كل مكان.
وعدا ذلك فإنه نبغ في العالم مؤرخون عظماء بين النصارى واليهود والمسلمين في عصر محمد وقبله وبعده وسجلوا في مؤلفاتهم حوادث الزمان. وباطلاعنا على توراتهم لم نر أثراً في تاريخ أحد منهم يدل على تواطؤ النصارى واليهود على حذف شيء من الأسفار المقدسة يتعلق بمحمد ولا بغير محمد.
وإن فرضنا أنه وُجد بين النصارى أو اليهود طائفة انتزعت مخافة الله من قلوبهم والحياء من الناس. بحيث لم يعودوا يبالون بعذاب الله ولا بملام الناس. وشرعوا يحذفون خبر محمد من التوراة والإنجيل. فإنهم يجدون ذلك ضرباً من المحال بسبب أن الديانة المسيحية وكتبها قبل الهجرة كانت قد انتشرت انتشاراً عظيماً. حتى أن سكان آسيا الصغرى وسوريا واليونان ومصر والحبشة وشمالي أفريقيا وإيطاليا قد اعترفت بالمسيح. بل وأكثر من ذلك فإن كثيرين في جزيرة العرب وبلاد فارس والأرمن والقوقاز والهند وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وانكلترا وألمانيا قد قبلوا المسيحية أيضاً. ولهذه البلاد لغات مختلفة تُرجم الكتاب إلى كثير منها،فتُرجم إلى الطليانية والأرمنية والأشورية والقبطية والكوشية والقوطية والقوقازية. وعدا هذه كانت التوراة موجودة في الأصل العبراني والعهد الجديد موجوداً في الأصل اليوناني. وتُرجمت التوراة كلها إلى اليونانية. وسُميت الترجمة السبعينية. وتُرجم كثير منها إلى الآرامية من قبل ميلاد المسيح.
ولا يخفى على أحد أن اليهود متفرقون في أنحاء العالم وبالأكثر في الجهات المشار إليها. وهم منقسمون إلى طوائف مختلفة. وكذلك المسيحيون منقسمون إلى طوائف كثيرة متضادة. فلا تقدر إحدى طوائف اليهود أو النصارى أن تُقدم على هذا المشروع خشية من تشهير الطوائف الأخرى بها. وعلى ما تقدم مهما يكن المرء أحمق أو مختل العقل فلا يبلغ منه الحمق والخلل حداً يتصور له معه إمكانية اتفاق اليهود والنصارى. هؤلاء مع اختلاف طوائفهم. وأولئك مع اختلاف طوائفهم وتوحيد رأيهم على تغيير أسفارهم الإلهية. وإن فرضنا المستحيل وقلنا بل اتفقوا كلهم وغيروا كتابهم وجردوا صحائفه من السيرة المحمدية. فماذا عسانا نقول عن النسخ التي اكتُشفت بعد عصر محمد ويرجع تاريخها إلى ما قبله . فمن يا ترى غيَّر هذه أيضاً وهي تحت الأرض مخفية مع الآثار القديمة. هل انضمت جماعة الجن إلى حزب المتواطئين .ثم أن للمسيحيين مؤلفات دينية تفوق الحصر تشتمل على اقتباسات في مواضيع مختلفة من الكتاب المقدس. فهل راجع المتواطئون هذه المؤلفات أيضاً ونقحوها من سيرة النبي العربي .
والأغرب من ذلك كله أنه بينما يزعم المسلمون أننا غيَّرنا كتابنا وحذفنا منه البراهين على رسالة نبيهم. يحاول علماؤهم الراسخون أن يثبتوا وجود هذه البراهين في كتابنا اليوم. فإن صدق علماؤهم. وكان في الكتاب براهين على ذكر محمد فلماذا إذاً تتهموننا بأننا حذفناها .أليس من عزم الأمور أن تستقروا على رأي واحد .
ومن أمثلة براهينهم التي يوردونها في الكتاب على البشارة بنبيهم ما وعد به المسيح تلاميذه من إرسال الفارقليط كما جاء في بشارة يوحنا 16 :7 لا يسلم المسيحيون أن الفارقليط هو محمد. إلا أن إبقاء هذه الآية في قلب الإنجيل لليوم دليل على أنه الم تُحذف منه. ثم نقول لو كان المسيحيون يريدون أن يحذفوا الآيات الدالة على نبوة محمد من كتابهم لكان الأولى بهم أن يحذفوا هذه الآية. لأنها هي الآية الوحيدة التي نبه إليها القرآن وعينها بالحصر وقال إنها تشير إلى نبوة محمد. حيث يقول وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ - سورة الصف 61 :6 - . وكما أن محمداً ادعى أنه الفارقليط الذي وعد به المسيح بإرساله. ادّعى من قبله هذه الدعوى عينها ماني الفارسي - كما يعلم ذوو الاطلاع - وبنى دعواه على آية المسيح المشار إليها. وتبعه بعض المسيحيين. ولما اتضح على توالي الأيام أنه دجال واضمحلت شيعته. لم يحذف المسيحيون هذه الآية التي استعان بها على ضلالته. وهاك هي موجودة في الإنجيل إلى اليوم.
ثم أن اليهود اطلعوا على آيات كثيرة في توراتهم تدل على المسيح دلالة واضحة. واحتج بها المسيحيون عليهم احتجاجا لم يجدوا معه سبيلاً إلى التخلص من الالتزام بالحق. وعداوتهم للمسيح أشهر من نار على علم. ولكم لم يحملهم هذا كله على تحريف آية واحدة من الآيات الدالة على المسيح مع كونها تلصق بهم أعظم جريمة وتقضي عليهم قضاء مريعاً. فلو كان اليهود حرفوا التوراة في شأن محمد .لكان الأولى بهم أن يحرفوها في شأن المسيح ويحذفوا منها هذه البينات الراهنات - تكوين 49 :10 وتثنية 18 : 15 و18 ومزامير 22 :14-18 وإشعياء 7 :14 و9 :6 و7 و11 :1-10 و52 :13 الخ وص 53 كله ودانيال 8 :13 و14 و9 :24-27 وميخا 5 :2 وزكريا 12 :10 - قابل هذه النصوص الجلية بما ورد في الإنجيل - لوقا 24 :25-27 - .
وفي التوراة آيات تتعلق بمسألة أخرى يود اليهود لو لم تكن موجودة فيها. وهي تلك التي تشهر بفظائعهم وجرائمهم المتناهية في القبح. فلو كانوا حرفوا توراتهم بخصوص محمد فما كان أجدر بهم أن يحذفوا كل ما يشين سمعتهم ويلصق بهم شر الفعال!
أمرهم الله أن يحافظوا على شريعة التوراة - يشوع 1 :7 - وأن لا ينقصوا منها ولا يزيدوا عليها - تثنية 4 :2 و12 :32 - فعملاً بالوصية حافظ اليهود على توراتهم. وخوفاً من أن تسقط منها كلمة أو حرف أحصوا كلمات كل سفر من أسفارها. بل أحصوها حروفاً وقيدوا الاحصاءات في كتبهم الدينية ليرجعوا إليها عند اللزوم. وليكن معلوماً أن نسخة التوراة المتداولة بين اليهود هي عين النسخة المتداولة بين النصارى. وكلتاهما تُطبعان في مطبعة واحدة.
ولئلا يظن بعضهم أنه ربما غيَّر اليهود توراتهم قبل المسيح. ونحن أخذناها عنهم مغيَّرة فصارت نسختهم ونسختنا واحدة. أقول إن القرآن كفانا مؤونة هذا الاعتراض. لأنه يشهد بأن المسيح جاء مصدقا لما معهم من التوراة. ثم أنه لا المسيح ولا رسله اتهموا اليهود بتهمة التحريف. وهاكم صحائف الإنجيل راجعوها تجدوها بيضاء نقية من هذه التهمة. في حين أنها شهرت بخطاياهم في غير هذه المسألة. بل يشهد الإنجيل للتوراة بأنها موحى بها من الله. وأنها باقية على أصلها. وبحرص المسيحيين على قرائتها والعمل بها. ومن ذلك الآيات الآتية في الإنجيل - متى 5 :17 و18 و22 :31 و32 ومرقس 7 :6-10 ولوقا 11 :29-32 و24 :25-27 ويوحنا 5 :39 و45-47 و2 تيموثاوس 3 :16 - . من هذه الآيات البينة يتضح أنه في عصر المسيح ورسله قبلت التوراة لديهم كتاباً موحى به من الله ليس بها مساس من مظنة التحريف والتغيير. لأنه لو حرفها اليهود لكان المسيح وبَّخهم علانية على هذا الشر العظيم. ولأشار بلا شك إلى مواضع التحريف وأصلحها لتبقى صالحة للاستعمال في كنيسته.
وهذه النظرية ذاتها تثبت عدم ضياع التوراة وعدم تحريفها عند خراب أورشليم في زمن بختنصر والأسر البابلي. ولو حدث شيء لكان المسيح بيَّن الحقيقة.
إن بعض كتاب المسلمين يدعون أنه في وسعهم أن يثبتوا وقوع التحريف عمداً في التوراة. ويعينوا الآيات المحرفة. ومنها على ما يدّعون الآية الواردة في سفر التثنية 27 :4 ففي النسخة السامرية مكتوب جبل جرزيم وفي العبرانية جبل عيبال ولكن الحقيقة هيأنه ليست النسخة العبرانية وحدها المكتوب فيها جبل عيبال بل في كل التراجم القديمة كالترجمة السبعينية واللاتينية الدارجة والسريانية والباشطا والأرمنية والحبشية.
وعليه فالعبارة الأصلية جبل عيبال كما في الأصل العبري لا جبل جرزيم كما في النسخة السامرية التي حرفها السامريون لرغبتهم الخصوصية في الجبل الذي سموه بهذا الاسم. ومع كونهم حرفوا نسختهم في هذه الكلمة انحصر التحريف فيها. ولم يتعدَّ إلى النسخ الأخرى المعتمدة عند طوائف اليهود وطوائف النصارى. وهناك احتمال آخر في هذه المسألة. فربما ظنَّ الناسخ الذي نقل النسخة السامرية عن العبرانية أن الكاتب الأول كتب جبل عيبال سهواً عوض جبل جرزيم لمناسبة ما ورد في عدد 12 من ذلك الأصحاح. ما مؤداه أن بعضاً من الأسباط الاثني عشر يقفون على جبل جرزيم ويباركون الشعب والبعض الآخر يقفون على جبل عيبال وينطقون باللعنات على من يرتكب تلك المعاصي المذكورة هناك. ويقول الشعب آمين . فمن المحتمل أن كاتب النسخة السامرية ظن المقصود جبل البركات لا جبل اللعنات. وعلى كل حال فإن السامريين لم يقدروا أن يعمموا هذا الخطأ أو التحريف إلا في دائرتهم الخصوصية - إن صح أنه تحريف!! -
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
ولو كان اليهود هم الذين حرفوا نسختهم لا السامريون لكان الأولى بهم أن يحرفوا عدد 12 لا عدد 4.
ثم إننا كنا قد أشرنا في ما تقدم إلى الخلاف الموجود بين النسخة السامرية والنسخة العبرانية والترجمة السبعينية من حيثية أعمار بعض الآباء الأولين في أصحاحي 5 و10 من سفر التكوين. وفي الغالب يجب أن يُحمل هذا الخلاف على محمل الخطأ. لأن الأرقام قابلة الخطأ حيث يسهل أن يحل بعضها محل الآخر. ومن الواضح أن اختلاف النسخ في هذه الأرقام لا يمس جوهر الكتاب في شيء.
وحاول بعض كتاب المسلمين أن يثبتوا وجود اختلاف كثير بين أسفار الكتاب المقدس. وزعموا أن هذا الاختلاف دليل على تحريفه. غير أن الكتّاب المطلعين ذوي العقول الراجحة والأفكار النيرة يسلّمون أنه إن كتب كاتبان أو أكثر عن واقعة حال. وكتب كلٌّ منهم بمعزل عن الآخر. تأتي كتاباتهم مختلفة اختلافاً ظاهرياً. ولكن إن اتفقت اتفاقاً تاماً يستدل من اتفاقهم على أنهم متواطئون.
أما البسطاء فيشتبه عليهم ظاهر الاختلاف بين سفر وآخر. ويشكّون في صحة الأسفار. أما المطلعون فيعلمون أصله ويحلونه حلاً جميلاً. والاختلاف الظاهري بين أسفار الكتاب المقدس أعظم دليل على أمانة أهله. وإلا لكانوا أزالوه منه لكي لا يبقى عرضة لانتقاد المنتقدين. ومن أمثلة والاختلاف الظاهري ما ورد عن نسب المسيح في بشارة متى ص 1 وبشارة لوقا ص 3 وما ورد عن موت يهوذا في بشارة متى 27 :5 وسفر الأعمال 1 :18 و19 فلو كان استباح أهل الكتاب التحريف لكانوا وفَّقوا بين هذه المواضع من كتابهم.
ويزعم قوم من المسلمين أن الإنجيل محرف لقول بعض النصارى إن الآيات الآتية غير موجودة في النسخ القديمة وهي - بشارة مرقس 16:9 إلى 20 وبشارة يوحنا 5:3 و4 و7 :53-8 :11 ورسالة يوحنا الأولى 5 :7 - ولو أن هذه الآيات لم تكن موجودة في المتن في النسخ الأكثر أقدمية إلا أنها موجودة على الهامش. فظنها الناسخ من الأصل فأدمجها فيه بسلامة نية. وسواء أصاب في ظنه أو أخطأ. فإن وجود هذه الآيات وعدمه لا يؤثران في جوهر الكتاب ولا في عقيدة من عقائد الكنيسة. لأن الحقائق الأساسية التي تضمّنها مستوفاة بأكثر تفصيل في مواضع أخرى من الكتاب.
وبالنسبة لهذه المسألة يوجد فرق عظيم بين الكتاب والقرآن. فإن المطلعين من المسلمين يعلمون أن فريقاً من الشيعة أثبتوا أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وعثمان بن عفان الخليفة الثالث غيَّرا جملة آيات من القرآن بسوء النية والقصد. ليخفيا عن المسلمين حقيقتين هما من الأهمية بمكان : الأولى. هي يجب أن يكون عليٌّ صاحب الخلافة بعد محمد. والحقيقة الثانية يجب أن تحصر الإمامة في ذريته. ويدّعي فريق آخر أنه أسقط من القرآن سورة بجملتها يقال لها سورة النورين للغاية المشار إليها. أما نحن فلا يهمنا التحري عما إذا كانت هذه الدعوى صحيحة أو مُختلقة. ولكن تهمّ أهل السنة من المسلمين. لأنه إن كانت سورة النورين من القرآن حقيقة يكون ما أشقاهم واسوأ حظهم. لأنها تنذرهم بسوء العاقبة كما في قوله إن لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون وكتب ميرزا محسن بكشمير في كتاب له سنة 1292 هجرية يسمى - داستاني مذاهب سورة النورين - وذكر أن بعض الشيعيين يؤكدون بأن عثمان عندما أحرق المصاحف القديمة وأمِن على نفسه مناقشة الحساب. عمد إلى النسخة التي كانت بين يديه وشطب منها كل ما كان من مصلحة علي ابن أبي طالب وذريته من السيادة والإمامة. وقال أن بعض العلويين ينكرون القرآن المتداول اليوم. ولا يسلمون بأنه هو الذي نزل من الله على محمد. كما يعتقد المسلمون. بل يقولون إن أبو بكر وعمر وعثمان اختلقوه. نعم إن لدى العلماء المحققين من الأدلة ما يكفي لدحض هذه الدعاوي الباطلة. غير أنهم لا يسعهم إلا التسليم بأن هذه التهم الشائنة صوبها نفس المسلمين إلى القرآن. والذي يهمنا من المسألة أن هذه التهم في اعتبارهم مخلة بجوهر الخلاص لكل فرد من المسلمين. إن كان في الإسلام خلاص. في حين أن الدعاوى المزعومة على كتابنا المقدس محصورة في آيات قليلة. وهي التي سبقت الإشارة إليها إن حذفت من الكتاب أو زيدت عليه لا تخل بشيء من عقائد الدين والخلاص على الإطلاق - لأنها عرضية لا جوهرية - .
ويدّعي بعض المسلمين عدا ما تقدم ذكره أنه قد ضاع من بين دفتي الكتاب المقدس أسفار كانت معدودة منه يوماً ما. كسفر ياشر - كما في سفر يشوع 10 :13 - وكتاب حروب الرب - كما في سفر العدد 21 :14 - فنقول دحض الهذا الاعتراض إن السفرين المذكورين لم يندرجا قط في سلسلة أسفار التوراة. وإن كانت أشارت إليهما التوراة. وحكمها حكم الأسفار التي أشار إليها القرآن وهي ليست منه. كصحف إبراهيم وموسى مثلاً - سورة الأعلى 87 :19 وسورة النجم 53 :36 -
واعترض بعضهم بأن الكتاب المقدس عند الكنيسة الكاثوليكية يتضمن أسفاراً غير موجودة عند كنيسة البروتستانت. ورداً على هذا نقول : إن أسفار العهد الجديد موجودة بذاتها عند عموم المسيحيين من بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس. وأما أسفار العهد القديم فقد زادت عليها الكنيسة الكاثوليكية أسفارا لم تكن مدرجة من ضمن التوراة عند المسيحيين الأولين. ولا عند اليهود. فضلاً عن كونها لا توجد في الأصل العبراني. نحن معاشر المسيحيين الحقيقيين نعتمد أسفار العهد القديم حسبما هي مدرجة في قانون اليهود وتثبَّتت لنا من المسيح ورسله. ولكن إن فرضنا أن هذه الأسفار المزيدة موحى بها فإنها بجملته الا تؤثر على أية عقيدة من عقائد الديانة المسيحية. وأما الفروق المذهبية بين كنيسة البروتستانت وغيرها فلم تنتج عن زيادة هذه الأسفار على العهد القديم. ولا عن اختلاف في الكتب. كما أن مذاهب الإسلام لم تنتج عن اختلاف في القرآن بين مذهب وآخر.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
قد تكلمنا عن نسخ أسفار العهد القديم والجديد في اللغات الأصلية. وتكلمنا عن التراجم القديمة في جملة اللغات التي لم تبق إلى اليوم. ونتكلم هنا بالإيجاز عن الأدلة التي أقامها لنا كتبة المسيحيين الأولين على الموضوع الذي نحن بصدده. فنقول إن بين أيدينا مؤلفات مسيحية كثيرة يختلف تاريخها من القرن الأول للميلاد إلى ما بعد الهجرة في لغات مختلفة. يونانية ولاتينية وسريانية وقبطية وأرمنية. أقدمها رسالة اكلميندس إلى كورنثوس سنة 93 إلى 95 ورسائل أغناطيوس السبع سنة 109 إلى 116 ورسالة بوليكاربوس سنة 110 تقريباً ورسالة نُسبت خطأ إلى برنابا سنة 100 إلى 130 كتبت جميع هذه باليونانية. ثم قام كّتَّاب كثيرون بعد هؤلاء وكتبوا ما عنَّ لهم في لغات مختلفة. وأولئك أجمعون كأنهم اليوم أحياء بين ظهرانينا. يشهدون بأن إيماننا اليوم كإيمان الكنيسة في عصورهم الأولى. وعدا ذلك اقتبسوا آيات كثيرة من أسفار العهد القديم والعهد الجديد. منها ما هو بالمعنى ومنها ما هو باللفظ. وجميع ما اقتبسوه مطابق لكتابنا المقدس المتداول اليوم. وهذا دليل قوي على أن الكتاب المقدس لم يُحرف لا قبل الهجرة ولا بعدها. ولو فرضنا أنه قامت جمعية في عصر محمد أو بعده وضمت بين أحضانها أخبث من على وجه الأرض. وتعاونوا على تحريف الكتاب المقدس. فستمنعها جبال من الصعوبات لا يستطيعون تذليلها. إذ عليهم أولاً أن يجوبوا أقطار الأرض المنتشرة فيها المسيحية واليهودية من قارة آسيا وأوروبا وأفريقيا. ويزوروا كل مجمع لليهود. وكل كنيسة ومكتبة وبيت يهودي ومسيحي. ويجمعوا كل النسخ في كل اللغات ما بين عبرانية ويونانية ولا تينية وقبطية وأرمنية وحبشية وعربية وغيرها. وعليهم أن يحتالوا على السامريين ويستكشفوا خبايا أسفارهم المتوغلة في القدم وتراجمها المتأخرة في لغتهم الخاصة. ويسلبوها منهم. وعليهم أيضاً أن يحرفوا الترجوم الآرامي اليهودي. وبعدما ينتهون من جمع نسخ الكتاب المقدس من كل العالم عليهم أن يتفقوا على ما هم شارعون في حذفه ويحذفوه. ويبقى عليهم بعذ ذلك كله أن يجمعوا مؤلفات اليهود والنصارى الدينية في كل اللغات من كل أقطار الأرض ليخفوا الاقتباسات المتضمنة فيه الئلا تنكشف حيلتهم ويذهب تعبهم باطلاً. وعليهم في ختام مشروعهم أن يكون لهم سلطان فائق الطبيعة حتى يمحوا من ذاكرة المسيحيين واليهود الذين على وجه الأرض ما حفظوه غيباً من توراتهم وإنجيلهم الأصليين لكي لا يفطنوا إلى التوراة والإنجيل المحرفين. أظن ما من عاقل يتصور جواز هذه المستحيلات. فمن باب أولى لا يتصورها إخواننا الراسخون في العلم. مع أن القرآن صرح في سورة آل عمران بقوله مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ الليْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ - سورة آل عمران 3 :113 -
فمن ذلك نستنتج ثلاثة أمور :
1أنه كان يوجد بعض الأتقياء الذين لم تسمح لهم ذمتهم بتحريف الكتاب
2أن الكتاب كان موجوداً بين أيديهم
3أنه كان معروفاً عندهم وهم يتلونه
ولايمكن لذي عقل أن يتصور إمكانية اتفاق اليهود والمسيحيين على ارتكاب هذا الإثم الفظيع الموجب للمذمة في الدنيا وغضب الله في الآخرة. لأنه لا يوجد سبب يدعو إلى هذا الاتفاق.
ولنفرض أن جماعة أقوياء من المسلمين في وقتنا أو قبل ظهور مطابع الحروف والحجر عزموا أن يحرّفوا القرآن وكل الكتب الإسلامية ألا يهزأ بهذا الكفر حال كون القرآن لم يترجم إلى لغات متعددة كالكتاب المقدس في عصر محمد .
ولنفرض أنه لو تيسر لهم أن يجمعوا نسخ القرآن المنتشرة في أقطار العالم ويحرفوها. فليسوا هم بقادرين على جمع الكتب الدينية الإسلامية ولا التفاسير الكثيرة للقرآن. ولو فرضنا أنهم قدروا على ذلك أيضاً. ألا يظهر تحريفهم من الكتب التاريخية كابن هشام والواقدي والغازي وفتوح مصر وفتوح العجم أو على الأقل الطبري وابن الأثير .لا يمكن لأي عاقل أن يتصور إمكانية ذلك. حتى لو كانت كل هذه الكتب في لغة واحدة. فبالأحرى لا يمكن تحريف الكتاب المقدس في عصر محمد أو بعده. لانتشار الاقتباسات الكثيرة. ولتعدد تراجمه.
ولو سلمنا جدلاً بإمكان تحريف الكتاب المقدس. بغضّ النظر عن كل هذه الصعوبات. أفما كان يظهر هذا التحريف من الكتب التي اكتُشفت حديثاً. وقد كنا نعرف أسماءها ولم نر مسمياتها. وهي في اللغات اليونانية والقبطية والأرمنية والسريانية منها - 1 - قانون الرسل - سنة 131-سنة 160 ب م -- 2 - كتاب محاربة أرستيدس - سنة 138-سنة 147 ب م - كتاب اتفاق البشيرين لستاتيانوس - سنة 160-سنة 170 ب م - وهذه الكتب قد ضاعت من قبل محمد بمدة طويلة. واكتُشفت في هذه الأيام الأخيرة. فلا يمكن تحريفها في حياته أو بعد موته. وهي تشهد بوحدة الإيمان المسيحي في العصور الأولى وفي هذا العصر. كما هو مثبت في الكتاب المقدس المنتشر اليوم في كل العالم. فترى من هذه الأدلة الساطعة والحجج الدامغة أن التوراة باقية على حالها كما كانت في زمن المسيح. والإنجيل باق على حاله كما كان في زمن رسله الأطهار - الحواريين -
ومن الحقائق التي تدحض الرأي الشائع بين المسلمين بتحريف الكتاب المقدس. هو أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر. وفتح أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد الشام. وسعد بن أبي وقاص العراق. وقعت بين أيديهم أشهر مكاتب العالم في ذلك العصر. وأخصّ بالذكر مكتبة اسكندرية وقيصرية. وكان في هذه المكتبات عدد وفير من نسخ الكتاب المقدس والمؤلفات المسيحية القديمة. وما كان أيسر عليهم أن يحفظوا هذه المكتبات أو على الأقل الكتب المقدسة التي جاء القرآن مهيمناً عليها. وتكون لهم في مستقبل الايام حَكَماً يحكمون بها عما إذا كان ما يستحدث من النسخ محرفاً أو هي طبق الأصل. ولكنهم أحرقوها. أحرقوا التوراة والزبور والإنجيل التي قال القرآن إنها كلام الله وخبر إحراق هذه المكاتب ورد في تاريخ أبي الفرج . وكشف الظنون .
لو حفظ المسلمون نسخ الكتاب التي وقعت بين أيديهم لأمكنهم منع ا حتمال تحريفه في العصور الأخيرة. لكنهم لم يبالوا بوصية قرآنهم ولا قضوا حق هيمنته. أما المسيحيون فقد استحفظوا على ما وقع في أيديهم من هذه الكتب المقدسة القديمة التي كتبت قبل الهجرة بقرون عديدة وسلمت من أيدي المسلمين في الاسكندرية وغيرها. وهاكم هي اليوم محفوظة في مكتبة روما وبطرسبرج وباريس ولندن وغيرها من مكتبات أوروبا. ويمكن لسياح المسلمين ونزلائهم في أوروبا أن يزوروا هذه المكتبات ويتحروا حقيقة دعوانا. وقد أخذت صورة بعض النسخ القديمة ونشرت بين الناس لكي يراها من ليس في وسعه أن يزور هذه المكتبات من أهل الأقاليم القاصية الذين يهمهم الاطلاع عليها. ومن مقارنة هذه النسخ الأصلية القديمة بعضها على بعض حصلنا على النسخة اليونانية الأصلية للعهد الجديد والنسخة العبرانية للعهد القديم وهما مطابقتان للنسخ القديمة المتفرقة في العالم. ومن النسختين الأصليتين ترجمنا الكتاب المقدس إلى أكثر لغات العالم.
ومما سبق أقمنا الأدلة القاطعة على عدم تحريف الكتاب المقدس على الاطلاق. لا قبل عصر محمد ولا بعده. وأن العلماء المحققين من المسلمين السالفين والمتأخرين يوافقون على عدم التحريف. وقد أثبتنا أيضاً بطلان وقوع نَسُخ في الكتاب المقدس. لا في أخباره التي رواها ولا في مبادئه الأخلاقية ولا عقائده الدينية. وقد بيّنا أن الكتاب المقدس اليوم هو بعينه كتاب العصور الأولى المتقدمة على زمن محمد بمئات من السنين. وشهد له القرآن بأنه كلام الله وكتابه في أكثر من مائة وعشرين موضعاً. إلى أن قال إنه جاء مهيمناً عليه.
وعلى ما تقدم يجب على كل مسلم مؤمن بالقرآن إيماناً حقيقياً أن لا يدع روح التعصب الذميم يحول بينه وبين الاعتقاد بصحة الكتاب المقدس. واتخاذه لنفسه نوراً وهدى في سبيل الحياة - انظر سورة غافر 40 :53-56 - . وحتى تتوفق إلى الهداية به يجب أن تقرأه بانتباه. طالباً من الله بإخلاص واشتياق أن ينير ذهنك ويفتح قلبك لتفهم تعليمه وتهتدي إلى الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم الله عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين - آمين.
ثم إننا كنا قد أشرنا في ما تقدم إلى الخلاف الموجود بين النسخة السامرية والنسخة العبرانية والترجمة السبعينية من حيثية أعمار بعض الآباء الأولين في أصحاحي 5 و10 من سفر التكوين. وفي الغالب يجب أن يُحمل هذا الخلاف على محمل الخطأ. لأن الأرقام قابلة الخطأ حيث يسهل أن يحل بعضها محل الآخر. ومن الواضح أن اختلاف النسخ في هذه الأرقام لا يمس جوهر الكتاب في شيء.
وحاول بعض كتاب المسلمين أن يثبتوا وجود اختلاف كثير بين أسفار الكتاب المقدس. وزعموا أن هذا الاختلاف دليل على تحريفه. غير أن الكتّاب المطلعين ذوي العقول الراجحة والأفكار النيرة يسلّمون أنه إن كتب كاتبان أو أكثر عن واقعة حال. وكتب كلٌّ منهم بمعزل عن الآخر. تأتي كتاباتهم مختلفة اختلافاً ظاهرياً. ولكن إن اتفقت اتفاقاً تاماً يستدل من اتفاقهم على أنهم متواطئون.
أما البسطاء فيشتبه عليهم ظاهر الاختلاف بين سفر وآخر. ويشكّون في صحة الأسفار. أما المطلعون فيعلمون أصله ويحلونه حلاً جميلاً. والاختلاف الظاهري بين أسفار الكتاب المقدس أعظم دليل على أمانة أهله. وإلا لكانوا أزالوه منه لكي لا يبقى عرضة لانتقاد المنتقدين. ومن أمثلة والاختلاف الظاهري ما ورد عن نسب المسيح في بشارة متى ص 1 وبشارة لوقا ص 3 وما ورد عن موت يهوذا في بشارة متى 27 :5 وسفر الأعمال 1 :18 و19 فلو كان استباح أهل الكتاب التحريف لكانوا وفَّقوا بين هذه المواضع من كتابهم.
ويزعم قوم من المسلمين أن الإنجيل محرف لقول بعض النصارى إن الآيات الآتية غير موجودة في النسخ القديمة وهي - بشارة مرقس 16:9 إلى 20 وبشارة يوحنا 5:3 و4 و7 :53-8 :11 ورسالة يوحنا الأولى 5 :7 - ولو أن هذه الآيات لم تكن موجودة في المتن في النسخ الأكثر أقدمية إلا أنها موجودة على الهامش. فظنها الناسخ من الأصل فأدمجها فيه بسلامة نية. وسواء أصاب في ظنه أو أخطأ. فإن وجود هذه الآيات وعدمه لا يؤثران في جوهر الكتاب ولا في عقيدة من عقائد الكنيسة. لأن الحقائق الأساسية التي تضمّنها مستوفاة بأكثر تفصيل في مواضع أخرى من الكتاب.
وبالنسبة لهذه المسألة يوجد فرق عظيم بين الكتاب والقرآن. فإن المطلعين من المسلمين يعلمون أن فريقاً من الشيعة أثبتوا أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني وعثمان بن عفان الخليفة الثالث غيَّرا جملة آيات من القرآن بسوء النية والقصد. ليخفيا عن المسلمين حقيقتين هما من الأهمية بمكان : الأولى. هي يجب أن يكون عليٌّ صاحب الخلافة بعد محمد. والحقيقة الثانية يجب أن تحصر الإمامة في ذريته. ويدّعي فريق آخر أنه أسقط من القرآن سورة بجملتها يقال لها سورة النورين للغاية المشار إليها. أما نحن فلا يهمنا التحري عما إذا كانت هذه الدعوى صحيحة أو مُختلقة. ولكن تهمّ أهل السنة من المسلمين. لأنه إن كانت سورة النورين من القرآن حقيقة يكون ما أشقاهم واسوأ حظهم. لأنها تنذرهم بسوء العاقبة كما في قوله إن لهم في جهنم مقاماً عنه لا يعدلون وكتب ميرزا محسن بكشمير في كتاب له سنة 1292 هجرية يسمى - داستاني مذاهب سورة النورين - وذكر أن بعض الشيعيين يؤكدون بأن عثمان عندما أحرق المصاحف القديمة وأمِن على نفسه مناقشة الحساب. عمد إلى النسخة التي كانت بين يديه وشطب منها كل ما كان من مصلحة علي ابن أبي طالب وذريته من السيادة والإمامة. وقال أن بعض العلويين ينكرون القرآن المتداول اليوم. ولا يسلمون بأنه هو الذي نزل من الله على محمد. كما يعتقد المسلمون. بل يقولون إن أبو بكر وعمر وعثمان اختلقوه. نعم إن لدى العلماء المحققين من الأدلة ما يكفي لدحض هذه الدعاوي الباطلة. غير أنهم لا يسعهم إلا التسليم بأن هذه التهم الشائنة صوبها نفس المسلمين إلى القرآن. والذي يهمنا من المسألة أن هذه التهم في اعتبارهم مخلة بجوهر الخلاص لكل فرد من المسلمين. إن كان في الإسلام خلاص. في حين أن الدعاوى المزعومة على كتابنا المقدس محصورة في آيات قليلة. وهي التي سبقت الإشارة إليها إن حذفت من الكتاب أو زيدت عليه لا تخل بشيء من عقائد الدين والخلاص على الإطلاق - لأنها عرضية لا جوهرية - .
ويدّعي بعض المسلمين عدا ما تقدم ذكره أنه قد ضاع من بين دفتي الكتاب المقدس أسفار كانت معدودة منه يوماً ما. كسفر ياشر - كما في سفر يشوع 10 :13 - وكتاب حروب الرب - كما في سفر العدد 21 :14 - فنقول دحض الهذا الاعتراض إن السفرين المذكورين لم يندرجا قط في سلسلة أسفار التوراة. وإن كانت أشارت إليهما التوراة. وحكمها حكم الأسفار التي أشار إليها القرآن وهي ليست منه. كصحف إبراهيم وموسى مثلاً - سورة الأعلى 87 :19 وسورة النجم 53 :36 -
واعترض بعضهم بأن الكتاب المقدس عند الكنيسة الكاثوليكية يتضمن أسفاراً غير موجودة عند كنيسة البروتستانت. ورداً على هذا نقول : إن أسفار العهد الجديد موجودة بذاتها عند عموم المسيحيين من بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس. وأما أسفار العهد القديم فقد زادت عليها الكنيسة الكاثوليكية أسفارا لم تكن مدرجة من ضمن التوراة عند المسيحيين الأولين. ولا عند اليهود. فضلاً عن كونها لا توجد في الأصل العبراني. نحن معاشر المسيحيين الحقيقيين نعتمد أسفار العهد القديم حسبما هي مدرجة في قانون اليهود وتثبَّتت لنا من المسيح ورسله. ولكن إن فرضنا أن هذه الأسفار المزيدة موحى بها فإنها بجملته الا تؤثر على أية عقيدة من عقائد الديانة المسيحية. وأما الفروق المذهبية بين كنيسة البروتستانت وغيرها فلم تنتج عن زيادة هذه الأسفار على العهد القديم. ولا عن اختلاف في الكتب. كما أن مذاهب الإسلام لم تنتج عن اختلاف في القرآن بين مذهب وآخر.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
قد تكلمنا عن نسخ أسفار العهد القديم والجديد في اللغات الأصلية. وتكلمنا عن التراجم القديمة في جملة اللغات التي لم تبق إلى اليوم. ونتكلم هنا بالإيجاز عن الأدلة التي أقامها لنا كتبة المسيحيين الأولين على الموضوع الذي نحن بصدده. فنقول إن بين أيدينا مؤلفات مسيحية كثيرة يختلف تاريخها من القرن الأول للميلاد إلى ما بعد الهجرة في لغات مختلفة. يونانية ولاتينية وسريانية وقبطية وأرمنية. أقدمها رسالة اكلميندس إلى كورنثوس سنة 93 إلى 95 ورسائل أغناطيوس السبع سنة 109 إلى 116 ورسالة بوليكاربوس سنة 110 تقريباً ورسالة نُسبت خطأ إلى برنابا سنة 100 إلى 130 كتبت جميع هذه باليونانية. ثم قام كّتَّاب كثيرون بعد هؤلاء وكتبوا ما عنَّ لهم في لغات مختلفة. وأولئك أجمعون كأنهم اليوم أحياء بين ظهرانينا. يشهدون بأن إيماننا اليوم كإيمان الكنيسة في عصورهم الأولى. وعدا ذلك اقتبسوا آيات كثيرة من أسفار العهد القديم والعهد الجديد. منها ما هو بالمعنى ومنها ما هو باللفظ. وجميع ما اقتبسوه مطابق لكتابنا المقدس المتداول اليوم. وهذا دليل قوي على أن الكتاب المقدس لم يُحرف لا قبل الهجرة ولا بعدها. ولو فرضنا أنه قامت جمعية في عصر محمد أو بعده وضمت بين أحضانها أخبث من على وجه الأرض. وتعاونوا على تحريف الكتاب المقدس. فستمنعها جبال من الصعوبات لا يستطيعون تذليلها. إذ عليهم أولاً أن يجوبوا أقطار الأرض المنتشرة فيها المسيحية واليهودية من قارة آسيا وأوروبا وأفريقيا. ويزوروا كل مجمع لليهود. وكل كنيسة ومكتبة وبيت يهودي ومسيحي. ويجمعوا كل النسخ في كل اللغات ما بين عبرانية ويونانية ولا تينية وقبطية وأرمنية وحبشية وعربية وغيرها. وعليهم أن يحتالوا على السامريين ويستكشفوا خبايا أسفارهم المتوغلة في القدم وتراجمها المتأخرة في لغتهم الخاصة. ويسلبوها منهم. وعليهم أيضاً أن يحرفوا الترجوم الآرامي اليهودي. وبعدما ينتهون من جمع نسخ الكتاب المقدس من كل العالم عليهم أن يتفقوا على ما هم شارعون في حذفه ويحذفوه. ويبقى عليهم بعذ ذلك كله أن يجمعوا مؤلفات اليهود والنصارى الدينية في كل اللغات من كل أقطار الأرض ليخفوا الاقتباسات المتضمنة فيه الئلا تنكشف حيلتهم ويذهب تعبهم باطلاً. وعليهم في ختام مشروعهم أن يكون لهم سلطان فائق الطبيعة حتى يمحوا من ذاكرة المسيحيين واليهود الذين على وجه الأرض ما حفظوه غيباً من توراتهم وإنجيلهم الأصليين لكي لا يفطنوا إلى التوراة والإنجيل المحرفين. أظن ما من عاقل يتصور جواز هذه المستحيلات. فمن باب أولى لا يتصورها إخواننا الراسخون في العلم. مع أن القرآن صرح في سورة آل عمران بقوله مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ الليْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ - سورة آل عمران 3 :113 -
فمن ذلك نستنتج ثلاثة أمور :
1أنه كان يوجد بعض الأتقياء الذين لم تسمح لهم ذمتهم بتحريف الكتاب
2أن الكتاب كان موجوداً بين أيديهم
3أنه كان معروفاً عندهم وهم يتلونه
ولايمكن لذي عقل أن يتصور إمكانية اتفاق اليهود والمسيحيين على ارتكاب هذا الإثم الفظيع الموجب للمذمة في الدنيا وغضب الله في الآخرة. لأنه لا يوجد سبب يدعو إلى هذا الاتفاق.
ولنفرض أن جماعة أقوياء من المسلمين في وقتنا أو قبل ظهور مطابع الحروف والحجر عزموا أن يحرّفوا القرآن وكل الكتب الإسلامية ألا يهزأ بهذا الكفر حال كون القرآن لم يترجم إلى لغات متعددة كالكتاب المقدس في عصر محمد .
ولنفرض أنه لو تيسر لهم أن يجمعوا نسخ القرآن المنتشرة في أقطار العالم ويحرفوها. فليسوا هم بقادرين على جمع الكتب الدينية الإسلامية ولا التفاسير الكثيرة للقرآن. ولو فرضنا أنهم قدروا على ذلك أيضاً. ألا يظهر تحريفهم من الكتب التاريخية كابن هشام والواقدي والغازي وفتوح مصر وفتوح العجم أو على الأقل الطبري وابن الأثير .لا يمكن لأي عاقل أن يتصور إمكانية ذلك. حتى لو كانت كل هذه الكتب في لغة واحدة. فبالأحرى لا يمكن تحريف الكتاب المقدس في عصر محمد أو بعده. لانتشار الاقتباسات الكثيرة. ولتعدد تراجمه.
ولو سلمنا جدلاً بإمكان تحريف الكتاب المقدس. بغضّ النظر عن كل هذه الصعوبات. أفما كان يظهر هذا التحريف من الكتب التي اكتُشفت حديثاً. وقد كنا نعرف أسماءها ولم نر مسمياتها. وهي في اللغات اليونانية والقبطية والأرمنية والسريانية منها - 1 - قانون الرسل - سنة 131-سنة 160 ب م -- 2 - كتاب محاربة أرستيدس - سنة 138-سنة 147 ب م - كتاب اتفاق البشيرين لستاتيانوس - سنة 160-سنة 170 ب م - وهذه الكتب قد ضاعت من قبل محمد بمدة طويلة. واكتُشفت في هذه الأيام الأخيرة. فلا يمكن تحريفها في حياته أو بعد موته. وهي تشهد بوحدة الإيمان المسيحي في العصور الأولى وفي هذا العصر. كما هو مثبت في الكتاب المقدس المنتشر اليوم في كل العالم. فترى من هذه الأدلة الساطعة والحجج الدامغة أن التوراة باقية على حالها كما كانت في زمن المسيح. والإنجيل باق على حاله كما كان في زمن رسله الأطهار - الحواريين -
ومن الحقائق التي تدحض الرأي الشائع بين المسلمين بتحريف الكتاب المقدس. هو أنه لما فتح عمرو بن العاص مصر. وفتح أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد الشام. وسعد بن أبي وقاص العراق. وقعت بين أيديهم أشهر مكاتب العالم في ذلك العصر. وأخصّ بالذكر مكتبة اسكندرية وقيصرية. وكان في هذه المكتبات عدد وفير من نسخ الكتاب المقدس والمؤلفات المسيحية القديمة. وما كان أيسر عليهم أن يحفظوا هذه المكتبات أو على الأقل الكتب المقدسة التي جاء القرآن مهيمناً عليها. وتكون لهم في مستقبل الايام حَكَماً يحكمون بها عما إذا كان ما يستحدث من النسخ محرفاً أو هي طبق الأصل. ولكنهم أحرقوها. أحرقوا التوراة والزبور والإنجيل التي قال القرآن إنها كلام الله وخبر إحراق هذه المكاتب ورد في تاريخ أبي الفرج . وكشف الظنون .
لو حفظ المسلمون نسخ الكتاب التي وقعت بين أيديهم لأمكنهم منع ا حتمال تحريفه في العصور الأخيرة. لكنهم لم يبالوا بوصية قرآنهم ولا قضوا حق هيمنته. أما المسيحيون فقد استحفظوا على ما وقع في أيديهم من هذه الكتب المقدسة القديمة التي كتبت قبل الهجرة بقرون عديدة وسلمت من أيدي المسلمين في الاسكندرية وغيرها. وهاكم هي اليوم محفوظة في مكتبة روما وبطرسبرج وباريس ولندن وغيرها من مكتبات أوروبا. ويمكن لسياح المسلمين ونزلائهم في أوروبا أن يزوروا هذه المكتبات ويتحروا حقيقة دعوانا. وقد أخذت صورة بعض النسخ القديمة ونشرت بين الناس لكي يراها من ليس في وسعه أن يزور هذه المكتبات من أهل الأقاليم القاصية الذين يهمهم الاطلاع عليها. ومن مقارنة هذه النسخ الأصلية القديمة بعضها على بعض حصلنا على النسخة اليونانية الأصلية للعهد الجديد والنسخة العبرانية للعهد القديم وهما مطابقتان للنسخ القديمة المتفرقة في العالم. ومن النسختين الأصليتين ترجمنا الكتاب المقدس إلى أكثر لغات العالم.
ومما سبق أقمنا الأدلة القاطعة على عدم تحريف الكتاب المقدس على الاطلاق. لا قبل عصر محمد ولا بعده. وأن العلماء المحققين من المسلمين السالفين والمتأخرين يوافقون على عدم التحريف. وقد أثبتنا أيضاً بطلان وقوع نَسُخ في الكتاب المقدس. لا في أخباره التي رواها ولا في مبادئه الأخلاقية ولا عقائده الدينية. وقد بيّنا أن الكتاب المقدس اليوم هو بعينه كتاب العصور الأولى المتقدمة على زمن محمد بمئات من السنين. وشهد له القرآن بأنه كلام الله وكتابه في أكثر من مائة وعشرين موضعاً. إلى أن قال إنه جاء مهيمناً عليه.
وعلى ما تقدم يجب على كل مسلم مؤمن بالقرآن إيماناً حقيقياً أن لا يدع روح التعصب الذميم يحول بينه وبين الاعتقاد بصحة الكتاب المقدس. واتخاذه لنفسه نوراً وهدى في سبيل الحياة - انظر سورة غافر 40 :53-56 - . وحتى تتوفق إلى الهداية به يجب أن تقرأه بانتباه. طالباً من الله بإخلاص واشتياق أن ينير ذهنك ويفتح قلبك لتفهم تعليمه وتهتدي إلى الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم الله عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين - آمين.
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
شكرا على الشرح الدقيق وعاشت ايدج
تميم تللسقوفي- عضو متألق
-
عدد الرسائل : 387
العمر : 47
تاريخ التسجيل : 09/04/2008
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
تم الحذف بواسطه برباره
السبب
مسلم وقح يسب ويلعن وهذا لا اسمح به هنا
المنتدى للمحترمين فقط لكن امثالك لا وجود لها هنا
السبب
مسلم وقح يسب ويلعن وهذا لا اسمح به هنا
المنتدى للمحترمين فقط لكن امثالك لا وجود لها هنا
إبن عبدالله- عضو جديد
-
عدد الرسائل : 1
تاريخ التسجيل : 01/12/2008
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
السلام عليكم
اخواني المسيحيين
دي اول مشاركه لي
..........................
متي حرف الكتاب المقدس ؟
تم تحريف الكتاب المقدس ما بين 68 ميلادياً إلى 313 ميلادياً ..
كيف حرف الكتاب المقدس ؟
لقد ضاع الكتاب المقدس المكتوب بخط كاتبه فى الفترة السابقة
لماذا حُرف الكتاب المقدس ؟
لأن الوثنيين يحاربون الحق دائماً ولا يحبوه فكما حاولوا قتل المسيح
حرفوا الكتاب وكما قتلوا الرسل حرفوا الكتاب ..
من الذى حرف الكتاب المقدس ؟
الكارهيين للحق والمحبين للباطل قتلة الأنبياء ومحرفين الكتب
الذين يحاربون الحق دائماً .. ولذلك قال المسيح في لوقا 13/34 ((ياأورشليم!يا أورشليم ، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها))
فليس كثير عليهم أن يحرفوا الكتاب كما قتلوا الأنبياء وفعلوا بهم
ما فعلوا ولذلك فيوجد إحتمالين إما أن يكون أن اليهود من حرفوا كما قال القديس
أوريجانوس في كتاب العهد القديم كما عرفتهُ كنيسة الإسكندرية صفحة رقم 58,57
(( أن اليهود هم من حرفوا الكتاب المقدس وحذفوا منه إلي رغبتهم))
في إخفاء كل ما يمس رؤسائهم وشيوخهم كما هو مذكور في بداية خبر
سوسنا :
" وعٌين للقضاء في تلك السنة شيخان من الشعب وهما اللذان تكلم الرب عنهما أنهُ خرج الإثم من بابل من القضاة والشيوخ"
وإما أن يكون من حرفوا هم الوثنين لانهم من قتلوا النصاري في
القرون الأولى وقتلوا علمائهم وحرقوا كتبهم وبالتالي كان سهلاً
جداً لليهود وللوثنين أو غيرهم في تحريف كتابهم وسهولة التحريف
والسؤال الآن:
فأين كان الكتاب المقدس في هذا الوقت ومن أين جاء النصاري بهذا الكتاب الذي بين أيديهم الآن ومن كتبه؟؟!!
والآن الحقيقة واضحة لكل باحث حقاً عن الحق ومن يقول غير ذاك الكلام يكون متكبراً على الحق من الله سبحانهُ وتعالى
اخواني المسيحيين
دي اول مشاركه لي
..........................
متي حرف الكتاب المقدس ؟
تم تحريف الكتاب المقدس ما بين 68 ميلادياً إلى 313 ميلادياً ..
كيف حرف الكتاب المقدس ؟
لقد ضاع الكتاب المقدس المكتوب بخط كاتبه فى الفترة السابقة
لماذا حُرف الكتاب المقدس ؟
لأن الوثنيين يحاربون الحق دائماً ولا يحبوه فكما حاولوا قتل المسيح
حرفوا الكتاب وكما قتلوا الرسل حرفوا الكتاب ..
من الذى حرف الكتاب المقدس ؟
الكارهيين للحق والمحبين للباطل قتلة الأنبياء ومحرفين الكتب
الذين يحاربون الحق دائماً .. ولذلك قال المسيح في لوقا 13/34 ((ياأورشليم!يا أورشليم ، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها))
فليس كثير عليهم أن يحرفوا الكتاب كما قتلوا الأنبياء وفعلوا بهم
ما فعلوا ولذلك فيوجد إحتمالين إما أن يكون أن اليهود من حرفوا كما قال القديس
أوريجانوس في كتاب العهد القديم كما عرفتهُ كنيسة الإسكندرية صفحة رقم 58,57
(( أن اليهود هم من حرفوا الكتاب المقدس وحذفوا منه إلي رغبتهم))
في إخفاء كل ما يمس رؤسائهم وشيوخهم كما هو مذكور في بداية خبر
سوسنا :
" وعٌين للقضاء في تلك السنة شيخان من الشعب وهما اللذان تكلم الرب عنهما أنهُ خرج الإثم من بابل من القضاة والشيوخ"
وإما أن يكون من حرفوا هم الوثنين لانهم من قتلوا النصاري في
القرون الأولى وقتلوا علمائهم وحرقوا كتبهم وبالتالي كان سهلاً
جداً لليهود وللوثنين أو غيرهم في تحريف كتابهم وسهولة التحريف
والسؤال الآن:
فأين كان الكتاب المقدس في هذا الوقت ومن أين جاء النصاري بهذا الكتاب الذي بين أيديهم الآن ومن كتبه؟؟!!
والآن الحقيقة واضحة لكل باحث حقاً عن الحق ومن يقول غير ذاك الكلام يكون متكبراً على الحق من الله سبحانهُ وتعالى
snobbery- عضو جديد
-
عدد الرسائل : 4
العمر : 43
تاريخ التسجيل : 29/08/2010
رد: لا تحريف في التوراة والإنجيل
عزيزي ردك ينضرب لعرض الحائط
واضح انك لم تقرا الموضوع
وساقول لك شيئاً واحدا
مجرد قول ان الكتاب المقدس محرف
بهذا القول تضع الهك في مأزق
لانك ستجعله اله ناقص
لان سمح بيد بشريه العبث في كلامه
كيف تعبد اله ناقص يا مسلم؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى